الإسلام ليس مدنية ولا أيديولوجيا حزبية ولا هو شريعة تراثية، هو منهج الإنسان كامل الأهلية في كل مفاصل الحياة، وقيم تعطي الأهلية والكرامة. وهنا أركز على الأهلية؛ لأنها مهمة لاختبار المنظومة العقلية التي هي سبب وجود الآدمية على الأرض، بأن تكون هنالك سلالة تعمر الأرض، فكل ما يتعلق بالحياة وإدارتها مدنيا، هو اجتهاد بشري، والسياسة منها، من أجل هذا كان القرآن مثاني، أي طيات، حمال أوجه من التفسير والاستفادة منه للتنظير عبر العصور، وليس تقديس عصر أو شخصية أو مجتهد أو فقيه.
ولعل تنحّي الأمة عن ريادة العالم هو فشلها في الإصلاح الهادئ، بل نشطت الانقسامات على الرأي والظن بامتلاك الحقيقة، فكانت فرق انقسمت سياسيا ثم راحت تؤصل لنفسها في الشرع والدين ليكون التكفير. وهنا عند هذا المفصل، كانت الكارثة والعجز والتنحي التدريجي عن ريادة المدنية في العالم؛ لأن العمل السياسي كان بمعزل عن الأمة، بل ملغي دورها، واعتبرت في كثير من الاجتهادات أن لا إرادة لها ولا اختيار، بل كان السلطان وكأنه متزوج من الأمة لتتبعه وخروجها عليه كفر. ونرى القرآن ينص على الشورى التي هي أوسع من مصطلح الديمقراطية، بل إن السيرة تؤكد وجوب رجوع الحاكم إلى الشعب في كل مستجد، وهذا ما رأيناه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لهم أنا نبي وأتصرف بالحق الإلهي، وإنما من يبايع، أو بايعوني؛ وهو أمر واضح في تفاصيل -مثلا لا حصرا- أحداث غزوة وبدر والخندق.
الحكم في الإسلام ليس بشكله، وإنما بمحتواه وغايته، فهو يتطور كأي أمر مدني مع الزمن لكن يحتفظ بأساس مهم، هو الشورى، والانتخابات جزء من الشورى، وهي ليست شكلية أو حيلة شرعية كما يخدع البعض أنفسهم بمقاربة الحكم الشرعي مع الواقع، دون فهم واستقراء ومن ثم استنباط، وإنما تعامل مع النص بمنطوقه ثم مراوغته. اختيار الحاكم هو عقد خدمة للأمة، وفق شروط تدخل بها عدة عوامل، منها الزمان والمكان ونوع المهمة، وما يواجه الحاكم، وتمكن إقالته وتعيين غيره من الشعب. هذه نقطة مهمة.
الإسلام مر بعصور وأفهام واجتهادات، بعضها مقبول في عصرنا، وبعضها لا يفي في معالجة الواقع ومواكبة نوع العيش وصغر العالم وتقارب الوقت، فالمسلمون لو كانوا على قلب رجل واحد فهم خُمس العالم، وهذا يعني وجوب الاستقراء والفهم لمعنى الإسلام وسنن الكون، وكيفية التعامل مع المدنية الحديثة وعلوم الاقتصاد والتجارة، وتصريف الحالة البنكية، وكيفية حماية المواطنين وسلامة علاقتهم مع الله، من خلال المواءمة الإيجابية باجتهاد للعصر، وليس الذهاب إلى الرموز والمجتهدين عبر العصور لنبحث عندهم عن حل.
وهنا، نذهب للإجابة عن سؤال: لِمَ لمْ يستمر الحكم الإسلامي في قيادة المدنية؟ سنلاحظ أن كل القواعد فُقدت، الحكم فقد، الظلم بدأ يشيع، ولولا أن هنالك قناعات ارتكزت على التدين الغريزي وليس الدين، لانفرط العقد مبكرا، لكن ما حصل خلق فرقا ومعتقدات دخيلة؛ منها الثائر بلا عقل للأمور، ومنها المستسلم المستكين، وكلها لا تعطي أهمية للإنسان وأهليته. فهنالك انفصال بين الأمة والحكم، وهنالك ضياع في الفكرة الأساس، لهذا بدأ الجهل يسود ويحكم الجاهل المتغلب، ويركن إليه العالم ليقنع الجمهور أن يرضى بالاستبداد، فأضحت الأمة عقيمة وتدهورت فكريا ومدنيا وأضحت قابلة للاستعمار، وهي مستعمرة أصلا، فحلّ الخراب بدل العمران والجهل بدل العلم، وتغلبت أحادية القيمة حيث تزاح النخب من حب تسلط ذوي الأمراض.
وبذلك، تخسر الأمة أملها بسبب جرأة الفاشل وعجز العالم عن الدفاع عن نفسه، فما نحتاجه أن نبني تاريخنا اليوم بلا تعلق برموز أو تقديس بشر لمجرد أنه قديم، ومنع الجهلة من صراخ يغطي على همس العلم ونقاهته. نحن بحاجة إلى قوارب يقظة تعيد النظر في كل شيء ورفع التقديس عما ليس مقدسا، وإبطال ما أحدث في التاريخ من سلبيات وفرق ومحن وخزعبلات تجرنا إلى التخلف وتنزع الآدمية عنا لننهض، وإلا كل قوالب أتى بها العجز من أفكار وأيديولوجيات، ليست إلا أوهاما تزيد الألم بالانشقاقات وتعطل الطاقات بالانطباعات.
نحو اليقظة:
الصين عندما غادرت سلبيات التاريخ لتكون أمة وليست قبائل؛ عادت لصدارة العالم وبطريقتها السلمية وقوتها الاقتصادية وحنكتها في الإدارة.
أمريكا لولا أنها تخلت عن عوالق الغرب واعتبرت نفسها أمة لم تصل إلى صدارة العالم، كذلك ارتقت اليابان والاتحاد السوفييتي وكل كون مكانته وفق جذوره، ومعظمهم يستند إلى مدنيات وليس أفكارا حضارية.
العالم الإسلامي يختلف بوجود الفكر الحضاري، لكن هذا الفكر نفسه فيه إشكالية عندما أصر الناس على تقديس البشر وامتلاكهم للحقيقة، فكانوا كزنابير من خلايا متعددة، وُضعوا في حاوية واحدة لتشتعل بينهم معركة تدمر بعضهم، ولا يستطيعون بناء خلية، وكل يظن أن هذه خليته ولا بد أن يدافع عنها.
إذا أردنا الارتقاء، فلا بد من التخلي عن:
- الموروث البشري الذي لم يعد مناسبا من تفسيرات للقرآن واجتهادات فقهية.
- التخلي عن الروابط الهابطة التي ترسبت نتيجة الإخفاقات، كالقومية والطائفية وتقديس الرموز.
- استعادة أصل الإسلام كقرآن وسنة وسيرة، وتجاوز اجتهادات قاصرة مهما كانت تسميتها غير الإسلام، فلا مذاهب ولا طوائف أو تمجيد، فهذه كلها تمثل مفرزات أزمات التاريخ أو الاصطدام بالمدنيات الأخرى، لا بأس من اجتهادات متعددة تقود العصر وصالحة لبنائه.
- الاعتماد على الإنسان والموارد وتجنيد الهمم للاستفادة من الوقت في النهضة بعد اليقظة، وهذه بإدارة حكومية تتبنى رعاية مصالح الأمة في الداخل والخارج، والسعي لتسهيل الحياة لمواطنيها.
لا بد من إصلاح للجهاز المعرفي وتحويله إلى منظومة معرفية تتفاعل مع الحياة والإنسان، ومخرجات أي مدنية تدل عليها ومكانتها، تدل على مشاركتها في الجهد البشري ككل، ولا بد من التمييز بين النص الإلهي وتفسير واجتهاد البشر، فالأول يستنبط منه ومقدس، والثاني يتغير ويبدل مع الزمن ولا يؤول أو يقدس. وإزالة أثر سوء الأفهام على الجهاز المعرفي.