واقع ملموس:
الأمم عندما تتفكك مثل أمتنا الغثاء تستعين بالوهم لتداري العجز والوهن، والأمة الغثاء ليست عصرية أو ما نراه في القرن 21، بل هي كذلك مذ بدأت تتخلى عن القيم الواضحة وتتجه إلى التماهي بلا حلول وإنما تقبل الواقع ولا تديره. وهذا من الناحية الفكرية له عمق تاريخي يبدأ وبأشكال ومراحل وتأثيرات متعددة مع زوال الخلافة الراشدة وتشظي الناس إلى مجموعات؛ منها ما استمر وهبط بالجنوح وما زال مستمرا بالهبوط ومنها ما انكفأ على نفسه بحجة حماية بيضة الدين من الأهواء والبدع لكن توسع في كلمة البدع حتى بات يرفض كل جديد.
البداية:
البداية كانت الفتنة وتورطت فئتان من المسلمين في حرب لم يخطط لها وبمحصلة عناصرها تبدو متكافئة، لهذا كاد تجنب المعارك الفاصلة أن يذهب إلى استنزاف وقتل علية القوم، فالتجأوا إلى معركة لتكون فاصلة كصفين التي لم تك فاصلة لكنها تركت سؤالا: ما هو الحل عند تكرر صراع كهذا؟
هذا السؤال الذي لم يجَب عليه حتى الآن انتحى بالأمة إلى مزيد من التشظي والرعب عند الفقهاء من دماء المسلمين وما أعقبها في الطف، وكان آل البيت ضحايا بارزين في الصراعات المرعبة بالنسبة للمسلمين، فالتجأ الفقهاء إلى رفض ونكران تكرارها واجتهدوا بما يخالف جوهر الشورى والنص بمقاربة ولاية التغلب التي كانت موجودة فعلا من ولاية معاوية واتضحت بتولي يزيد، حيث ظهر الظلم وأضحت الأمة ضحية وغاب عنها ما منحها الإسلام من أهلية فردية ضمن المجتمع ككل وأضحى الخليفة ملكا، واستمر الأمر إلى عصرنا هذا بتغلب الضباط والعسكر بدل السلاطين وأمراء الحرب. والأمة تنتقل سابحة بلا هدى في منظومة تنمية التخلف، لا تعرف مهمتها ولا تتخلى عن كونها معلمة للآخرين، وظهر التمرد على هذا بشكل انهزام ودونية أمام المتغلب الخارجي بعسكره ومعرفته، ومن الطبيعي أن مقاومة الأمة تكون نخبوية لأن الموضوع لم تتوارث الاهتمام به كشيء يخصها وإنما تبدع في أن لا يأتيها منه الضرر.
هذا جعل نشوء الحالة القانونية بعد استيراد ما في الغرب غير فاعلة وهي أصلا العمود الفقري للنظام الغربي، فاصطدم القانون بعناصر التخلف والعادات والتقاليد السلبية عندما يتعامل بها في الشأن العام، فكانت المحسوبية والمنسوبية وأناس فوق القانون، بل في بعض المناطق أناس متألهون، وكلمة نقد (وليس انتقاد) عليها تكفي لهدر الدم.
عقدة القدوة:
النخبة تصنع القدوة، ومعظمنا يتصور عند نطق القدوة أنهم أناس مثاليون أو بلغوا من الرقي لأن يقتدى بهم، عبر التاريخ والواقع.. واقعنا اليوم لا تديره نخبة من هذا النوع وإنما أقلية مغامرة لا تفهم وتعتبر القيم مصطلحات للمتاجرة لكنها لا تطبقها.
سؤال هنا عن الحقيقة يبرز، أين الحقيقة؟ هل هي المفكر والإنسان النظيف اليد الكريم الخلق المعدم الذي لا جاه له ولا مال ولا تمكين، ويمكن أن يكون من الماضي في أية لحظة ثم في دهاليز النسيان؟ فالتاريخ يذكر المصلحين المتمكنين.
يقول بعض الأدباء ككافكا "إن الحقيقة حية متغيرة باستمرار". ما يرونه في الحقيقة أنها متغيرة لمن يتعامل بالمشاهدة والمنطق وغلبة الواقع، أما من يتعامل مع الماهية فالحقيقة واحدة وتتكون من أوجه متعددة متعلقة بالزمان والمكان كبعدين كونيين مهمين، لكنها تبقى موضوع بحث وتمحيص في المنقول من العلم والمشاهد واقعا، فالشك يوصلك إلى جانب من الحقيقة إن فكرت تفكيرا صائبا وليس عبثيا كما يفعل الملاحدة.. فهذا سيوصلنا إلى التلاشي والانفصال عن تعريف الإنسان ذاته.
والحقيقة في مسألة القدوة تبدو نسبية لمن ينظر إليها، لكن النسبي هو معيار القدوة، فمثلا في جهازنا المعرفي نتحدث عن معركة اليرموك فنذكر خالدا والاستراتيجية التي ما زالت فاعلة لكن عندما نتحدث عن صفّين نذكر الفتنة، وعندما نتحدث عن سليمان القانوني نظن أنه وضع القوانين لكنه في الحقيقة جمع القوانين التي تؤطر الحكم من أجداده إلى أبيه ورتبها ليستدل بها فلا يكون خارجا عن الشريعة.
حكم المتغلب استمر حتى بعد سقوط الدولة العثمانية وهو مكتسب الشرعية العرفية وليس الشرعية القانونية وفق الشريعة الإسلامية، فنلاحظ الجمهور لا يهتم بالبحث أين الحقيقة وما مواصفات الحاكم المتغلب سواء بانقلاب عسكري أو سياسي، بل فيما سمي جدلا "الربيع العربي" استُغلت الجماهير بالعقل الجمعي في الانقلاب على نفسها بعد حين ليعود حكم المتغلب بدل المنتخب، ولنرى أن هنالك منظومات حركية فشلت في صد خيط العنكبوت لأنها لم تقرأ الواقع وإنما استمرت بالعقلية النقلية.
هذا يعود إلى القدوة وفهمها، فالناس لم يعتادوا أن يعبروا عن أنفسهم، فعندما أتاهم من يطبق العقد بين الحاكم والمحكوم انبهروا بالحراك ولم يفهموا نتائجه، فالقدوة عندهم من يحكمهم بالقوة وإن ابتسم ضحكوا، والذي لا يبطش بمخالفيه ضعيف، لهذا نجد أن ما حصل بما سمي بالربيع العربي لا منطق له ولا معيار وإنما أتاح فرصة لمنطق الفوضى والتفاهة لإسقاط تجربة لم تك مطلوبة كطريق وإنما كجسر لتغيير اقتضاه استقراء الواقع ممن يديرون دفته.
وهذه موجودة في التراث وثبطها الإسلام قليلا بجعل العلم معيارا والتقوى أساس التفضيل، لتعود مع الملوك بعد الراشدين إلى الشوكة والتغلب.
فالمفكر والعالم ما لم يك من المشاهير لسبب أو آخر ويظهر على الشاشات فهو ليس معتبرا ويمكن أن يسفهه أبسط الناس علما.
وإبراز التمكين يخفي العمالة والتبعية وظلم السلاطين، فكم من أمير حرب وُجد عبر التاريخ الماضي والحاضر يناجز العدو بالكلام بينما يُعمل السيف في قومه ويبطش بهم.
فالقدوة إذن والحقيقة مختلفتان، القدوة هي الواقع في الواقع ومنه سيئة أم حسنة، أما الحقيقة فهي ماهية ما يُنظر إليه لا مظهره أو منطق حديثه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق