السبت، 27 مايو 2023

62 - التمكين عند جالوت والمتفرعنين

 



الفراعنة والمتفرعنون، أناس قد تعجبك شعاراتهم وكلامهم، بيد أنهم إن تمكّنوا أفسدوا وأهلكوا الحرث والنسل، أقصوا الجميع ولا يتعاونون في البناء بأكثر من الكلام المبهرج. ولقد رأينا في واقعنا رؤية العين، من أجل هذا سنتحدث عن النفس الفرعونية في المستضعفين الذين إن تمكنوا تفرعنوا وما انفكوا متذمرين يرفعون الشعارات ويحطون الفعل.

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" (البقرة: 246).

* حالة التذمر، بل طلب التغيير بصوت عال وكأنهم في أفضل حالات الجهوزية للصلاح، فما بالهم يبقون تحت واقع لا يريدونه ويرونه نموذج للفساد؟!

* يريدون قيادة معززة للبدء بالتغيير.

* أمتأكدون أنكم مؤمنون بما تقولون وتدعون؟

* الجواب نعم، كيف نرى هذا الظلم والتردي ولا نغيره؟

من الفساد في الأرض عند التمكين إلى الإثارة والكلام والشعارات في مجتمعهم وهم غير متمكنين.. لماذا لا نفعل كذا وكذا، أنت أيها المصلح لماذا لا تقودنا لهذا الأمر وذاك؟ أتفعلون هذا حقا؟ الجواب الجاهز نحن لها؛ بل يشخّصون مواطن الضعف والنقاط الواجبة الإصلاح وما ينبغي أن يكون، ولكن وفق ما يشتهون وليس وفق الممكن والمتاح، ويسبق كلامهم (المفروض)..

وعندما يتطلب منهم المواقف وتصبح الأمور جدية تطلب من الداعين بصوت عالٍ التضحية، يتحجج الكثرة وأتباع المصالح ومن يريدون الزعامة والسلطة، وكانوا يتوقعون أنهم هم من سيختارهم النبي، فهم أصحاب النفوذ والمال والمكانة الاجتماعية. فكيف يختار لهم قائدا فقيرا لا عزوة له أو شخص يطلب منهم الاجتماع عليه؟ هكذا فعل بنو إسرائيل وهكذا نفعل نحن، فالناس سيتوجهون إلى عيوب المصلحين لا يهمهم المنطق ولا البرهان، بل تجدهم أول من يبتعد عن مسيرة الإصلاح، ويبقى مع المصلحين بعض المتأثرين بضرورة الإصلاح بمراحل متعددة من الإيمان، فيتساقطون في الاختبار.

والاختبارات أشار لها القرآن رمزا، والرموز تمثل الحاجة إلى الأشياء والضروريات، وغيرها مما يمكن الصبر عليه والاستغناء عنه، أو الاكتفاء بقدر الحاجة إليه، أُعد الناس وتكونت الأحزاب ونُظر لمن طال نضاله عند المناضلين، ومن ظهرت علامة السجود عليه عند المؤمنين، ومن تحمّل الجوع وما زالت عليه علامات السجن والغربة عند العاملين، لكن هل هؤلاء هم الصالحون؟

1- مع بداية المسيرة يأتي الجاه والمنصب، فمنهم من يغادر مسيرة طالوت إلى الجاه والمنصب حتى لو كان جالوت. وهنا تنتصر غريزة حب السيادة على ما طلب من مواجهة لجالوت.

2- تبدأ خطورة العمل والمواجهة للظروف القاسية وحرارة الواقع وجفاف وشظف العيش، فسيتوجه القسم الآخر إلى البيوت حيث الظل والأكل وبئر الماء. وهنا تسيطر غريزة حب البقاء على قيم تتطلب التضحية والعطاء، واحتمال فقدان النفس والمال في سبيل الإصلاح.

3- سيجد البعض أن المال أمامه سائب بيديه وهو من يقرر أمره، فيستطيب الأمر وتنهض غريزة حب التملك لتقضي على الأمانة لديه، فتحتضر القيم والمبادئ أمام الشهوات والرغبات.

4- ثم تأتي موازنة الحاجات التي أشار لها القرآن بالنهر، نعم أمامك نهر جار تخوض به، لكنه ممنوع عنك أن تفعل به ما تشاء، اللهم إلا إن اضطرت لكي تبقى على قيد الحياة، فلا بأس أن تغرف بيدك غرفة لتستمر.

ثلاثة نماذج لا ينبغي بقاؤهم كمتصدرين للإصلاح؛ لأنهم عناصر تثبيط ومشاريع فساد، والمداراة عليهم هي من معالم الفشل وتشييد صروح الفساد، هكذا قالت آيات سورة البقرة 246-248.

المثالية ليست حالة متوقعة:

النموذج القرآني يقول؛ إن هنالك ثلة ستجتاز كل هذا الامتحان مخلصة مضحية معطاءة، لكن عندما تأتي للمواجهة والشر، ستواجه هذه الثلة المؤمنة المصفاة من بينها من يثبطها. إن الفساد طاغ قاهر متجبر لا يمكن القضاء عليه أو مواجهته، والأفضل أن نسكت عليه، وأن نساومه، اسرق لكن ابنِ قليلا، لا تأكل كل الحقوق، لا تهرب بكل المال، لا تفسد كثيرا في الأرض، وإنما دع متنفسا للناس كيلا ينفجروا من شدة الظلم والفساد، ويبقى آخرون يصرّون على الإصلاح.

إن من سيواجه الفساد والظلم ليس من أصر على المطاولة، ولا من أصابه الإحباط من هول ما يرى، وإنما المنقذ من لا ينظر إليه أصلا؛ فتى صغير مثّله النموذج القرآني لا يحمل سيفا ولا صولجانا، وإنما الشباب الواعي الواثق بنفسه المتسلح بإيمان حقيقي والعلم والأناة، يعلم ما يريد ومتى يتحرك، هكذا كان داوود عليه السلام من نفض مقلاعه لينهي الجدل وتستقر الأمور.

إننا لن نواجه الفراعنة إلا بموسى وهارون، ولن نواجه جالوت إلا بداوود، وليس بالفرعون الذي داخلنا ولا بجالوت الذي يظهر فينا؛ إن تمكنا فحكم الفراعنة وجالوت هو هيمنة الظلم والفساد؛ لا بد أن نطرده من داخلنا وننقي أنفسنا من جالوت وفرعون لكي نسير مسيرة موسى ونحسم ظلم واستبداد جالوت، فلن يواجه فرعون فرعونا إلا ليكون محله، ولن يواجه جالوت جالوتا إلا ليكون باستبداده.

ولا بد أن نتأكد أننا نعبر النهر ولا نشرب، وأن نقول إن الصبر مفتاح الفرج والصبر ليس الاستكانة، وإنما الصمود على الحق وطلب العدل، فليست النفوس تحب المواجهة رغبة، وإنما دوما اضطرار عن خير الناس "وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم"، وفي كل الحالات وكل الأزمان يصرح القرآن بحقيقة أن الله يدفع الظلم بالحق وليس بظلم مثله، وإن حصل فهو امتداد للظلم وصراع بين الفراعة وجالوت وشبيهه؛ لأن الحفاظ على حق الاختيار بالعقيدة وسلامة الضروريات، هي بوجود المؤمنين الذين لا يسقطون بالاختبار: "وَلَولَا دَفعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعضَهُم بِبَعض لَّهُدِّمَت صَوَ ٰ⁠مِعُ وَبِیَع وَصَلَوَ ٰ⁠ات وَمَسَـٰجِدُ یُذكَرُ فِیهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِیرا وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ" (الحج: ٣٨-٤٠).

لننظر كيف قدم الله جل وعلا الصوامع، وهي مناطق عبادة عامة، والبِيَع وهي للمسيحيين، وجعل المساجد آخرها، فالمسلم مكلف بالدفاع عن حق المعتقد ومكان العبادة لغير المسلم قبل المسلم.

الإسلام لا يقبل الانحراف، وأي انحراف مكشوف بالأفعال والسلوك، وتمكينه ليس تسلطا ولا جبروتا، ويعبر عنه من فهمه، والاهتداء به لا يكون إلا للمتقين "ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين".

الجمعة، 12 مايو 2023

61 -- مـــــــارد الطغيـــــــان

 




CC0
الطغيان منهج

في منظومة تنمية التخلف التي نحن بيئتها، في داخل كل منّا مارد طغيان رهيب ينطلق إلى الطغيان عندما يجد له تمكينا، فحبنا للظلم هو منهج عرفه الجهاز المعرفي كتطبيق للتمكين، فكلنا يحاول أن يقوم بعمل الفايروس المختلط؛ من فايروس حصان طروادة والديدان عندما يتمكن من جهاز الحاسوب ليحوّل كل الملفات إلى نوع واحد لا يقرأ ولا يفهم، هو هذا تماما ما يُحدثه اختصار الأفكار العظيمة بجزئية فكرية؛ سيان تشوه فكري أو مصلحة شخصية أو معاناة في مجتمع يراد لها حل، ولكن بلا مشروع يحمل الحل أو تضحيات من أجل الحل، فتجد الضبابية هذه لنكون كقطيع أيل ضخم بعدده لكن لا صلة بين أيل وأيل حقيقية.

في مجتمع كهذا تُرْكَبُ القيم ولا تُحْمَل، لأنها ليست للتبني فالغاية تافهة وليس الفكر؛ تمثل حالة الفوضى غير المسيطر عليها فتسيطر هي على شخصية الأفراد وإن تباينت تلك المحتويات للناس فهي تبدو متشابهة لكن محتوياتها معطوبة. سيقول البعض إن الطغاة نصّبهم الاحتلال، نعم هم استثمروا في هذا الخلل المنهجي ويقاومون أي خروج عنه ولو جزئيا بكل وسيلة إن تماثل للشفاء أحد الحكّام وميّز بين الخط الرفيع الذي يفصل الحزم والطغيان، لا أدري صواب تقييمي كباحث ولكن ما يحضرنا كنموذج لتلك الحرب بين الفايروس ومضاد الفايروس هو الصراع المتخفي بين الغرب وأرودغان، والواسطة المحاربة له هي التفاهة والسطحية بلا رؤية أو هدف غير السلطة، وإلا الطغاة لم يُستوردوا، ولم يكونوا قبل طغيانهم إلا أناسا بسطاء في مظهرهم وربما في طروحاتهم لكن يتحرر المارد عند التمكين وعندما يفرك الإبريق كفوف المصفقين وحناجر المنافقين.

المضاد الملوث:

عندما نتحدث عن الجهاز المعرفي فإننا نتحدث عن أجهزة متداخلة في الحقيقة، فأفكار كثيرة نُقلت للمنطقة لغايات متعددة، ولم تنقل كاملة كنظم، ففُهمت من عامة الناس بسطحية الانطباع والمظهر، لم تدقَق ولم تراجَع وإنما يُحكم بها، وبالتالي ستكون ملايين الأفهام معايير للاختلاف، وقد تتطابق جزئيا لكن لا تتطابق مع الباحثين بعمق وإنما بسطحية التوصيف كما بسطحية التشخيص، لهذا عندما فسح المجال في الميديا نجد أن الناس يتهافتون بالتأييد للكلام السطحي المنقطع، الذي يثبّت القناعات السطحية عند القارئ ولا يكلفه جهدا في الفهم والعمل وإنما القناعة بالتخلف وأن النهضة صعبة بل مستحيلة "لان الشعب متخلف ولا يريد أن يعمل".

هذه القناعة عند الكثرة، فمن هو الشعب ومن هو الذي يمكن أن ينهض به؟ لا جواب في هذا الجو السفسطائي بلا عقلية راجحة أو نفسية تستطيب لها، تقطر تفاهة، يقتنع بأنه على حق وغيره الباطل، عقلية تولد رفض الإيجابية من التنوع وتقليص الفوارق عندما نناقش أنفسنا ونجعل التنوع في المدنية وليس بأفكار مقولبة غير قابلة للمناقشة أو التطبيق العملي، سواء كانت بواجهة إسلامية أو علمانية أو أي من الأشكال المطروحة والمسميات. إذن الأدوات نفسها معطوبة، لا تحاول التعاون للوصول إلى الهدف بل تمنع بعضها من الوصول إليه حتى في فهم التنافس المهني، ولطالما حُيدت عبقريات وكفاءات من أناس أدعياء خصوصا وأن الكفاءات أعجز الناس في الدفاع عن نفسها ما لم تُدعم بتمكين.

إن الأفكار نشأت وتطورت عبر الزمان والمكان، هنالك ضرورة لتفعيل الاجتهاد في الفكر الإسلامي كون الإسلام يمثل حالة الدولة والدين ومنهج حياة وحكم لكن.. بأي فهم؟ كذلك الشيوعية التي لم تتجاوز مرحلة الاشتراكية، والحداثة والرأسمالية التي طورت آلياتها وهي تتعرض لامتحان اليوم كما تتعرض أي منظومة لامتحان الاستمرار والوجود.. ويأتيك أي من حَمَلة هذه الأفكار بشكل انطباعي أو تقليدي ليأخذ النظام كقالب ويريد أن يحشر المجتمع فيه، ويُجهّلك الجاهل ويُكفّرك من قفل تفكيره وهو مكلف أن يبقيه مفتوحا.

ألم ترَ ما يحدث لكتلة جامدة عند حشرها في قالب ضيق أو فضفاض، فما بالك بكتلة متحركة! لا يُنظر إلى أن النظام استقر فكريا عند مرحلة ما، ولكن هذه تحتاج مراجعة لتكون مدبرة لعصرنا، ولا يُنظر إلى الزمن والإسقاطات التاريخية التي ولدت العلمانية، ولا الإرهاصات والمشاكل التي قادت النظام الحداثي لنراه اليوم وهو يؤسس لقوانين غريبة عجيبة لكنها وفق منهج لم يراجَع منذ مدة أيضا، لغلبة السطحية وإبعاد النظرة الفلسفية عن التقويم.

فالرأسمالية التاريخية الغربية فرضها الاقتصاد، لكن الحداثة والدولة في الولايات المتحدة تقدمت فلسفيا لغاية منتصف القرن الماضي وتجمّدت لتمتد المعالجات وفق مفاهيم تحتاج لمصطلحات تحتاج تطويرا ولم تُطوَّر، فكانت التشوهات نتيجة جمود تعريف كاللذة والرفاهية لنصل إلى الشذوذ القانوني، وهو ما تبنته حتى الحداثة في أوربا وما يعرف عند الجميع بالليبرالية الجديدة التي تحتاج أن تُهذَّب لكن مع ضياع المسلمين ستبقى مسببة لشقاء الآدمية.

واقعنا كأمة في مفرق طرق، فلا الدولة التاريخية تنفع ولا الحديثة تنفع ولا سلطات التغلب والأفق الأحادي الضيق سواء من منظور ديني أو قومي أو توجه منقوص كما يرى البعض من العلمانية والليبرالية، وهما آليتان وليستا أيديولوجيا، ولا الرأسمالية التي نشأت الدولة الحديثة لحمايتها

الدولــة:

الدولة مرت في التاريخ بحالة من التطور، من منظومة العشيرة إلى المدن والمناطق، وتعددت أنواع الإدارات، ولم تك الدولة تدخل كل تفاصيل حياة المواطن حتى أتت الدولة الحديثة ليكون المواطن صناعة الدولة والمتحرر بالعبودية لها.

واقعنا كأمة في مفرق طرق، فلا الدولة التاريخية تنفع ولا الحديثة تنفع ولا سلطات التغلب والأفق الأحادي الضيق سواء من منظور ديني أو قومي أو توجه منقوص كما يرى البعض من العلمانية والليبرالية، وهما آليتان وليستا أيديولوجيا، ولا الرأسمالية التي نشأت الدولة الحديثة لحمايتها.

خلاصة: لإقامة دولة ونموذج إداري وفكري لا بد من إعادة النظر في استقراء واقعنا، واستنباط فكر يفهم الغاية من الخلق وليس فكرا متمحور حول السلطة فحسب، ولا على الإخضاع الأسبرطي والإجبار الكهنوتي أو إجبار الناس أن يكونوا على رأي واحد، بينما رب العباد يقول في القرآن إن المؤمنين أقلية (الرعد)، وإنما هذا التنوع ليس يديره بعدل مثل الفهم الصائب للإسلام عندما لا يتقيد بمعنى الدولة الحداثية؛ وإنما الدولة الراعية لمصالح الأمة والشعب في الداخل والخارج، وإن كانت الأفكار المشوهة والسلبية والتي رُسخت في عقل الخاصة قبل العامة صعب تغييرها، وتحول الخاصة إلى الفهم الصواب ، فبلا تغيير كهذا يصبح التمني سيد الموقف وحديث مجالس وخطب لا واقعا له أو آلية تمكين؛ وتبقى العدالة والآدمية محض تجارة للمصالح وسوق أوهام للمارد الطاغية داخلنا.

السبت، 6 مايو 2023

60 - معوقات اليقظة

 


الجهاز المعرفي:

الجهاز المعرفي يمثل مجموعة الأفكار وطريق التفكير ومنهج التفكير والفهم، كما أنه يرتب الأولويات ويقدم ويؤخر في المواضيع، من أجل هذا، فإن ما يصيب أي أمة من تخلف هو بسبب فشل جهازها المعرفي، كذلك النجاح والصعود بسمو الجهاز المعرفي، فإن جمد ولم يواكب الزمن، عاد الجهاز ذاته ليكون سببا في التخلف، فالحياة تتوسع في متطلبات الفكر وتتطور بمتطلبات المدنية.

كيف يفسر الجهاز المعرفي بعض المفاهيم والمصطلحات:

التمكين، غالبا ما يفهم بأنه القدرة على البقاء والتأثير وكسر شوكة الأعداء أو المخالفين مع مرور الزمن، وأن بقاء الحاكم دليل نجاحه، وهذا ليس صحيحا، فتناغم الحاكم والمحكوم وارتباطهما بعقد قبول بعضهما لبعض، هو التمكين وهو النجاح، أي إن الحياة في المجتمع وتجانسها بما يمثل كلا من الحاكم والمحكوم هو النجاح، وإن لم يستمر الحاكم بحكم الظرف أو لأي سبب.

كذلك فإن مصفوفة الفكر عادة تكون تعاملات تشبه الرياضيات، لتنتج أمرا منطقيا من تشخيص وتحديد اللوازم والتخطيط لحل أي من الأسئلة، كذلك هي قادرة على معالجة التحديات كفاعلية ضمن التخطيط والتحصين. أما الظن بأن التخطيط من الآخر قدر مقدور، وتعيين جملة من المسلّمات التي تدعم بمقولات دينية لا تدري مصدرها في حقيقة الأمر، فيخلق حالة من الاستسلام الإرادي والقبول بالإخفاق ووقف التخطيط.

وهذا الخلل أيضا من الجهاز المعرفي الذي نقل بفهم خطأ للقضاء والقدر وعلم الله، وهنا تظهر حالتان، فإما الاستهانة بالمخاطر والتحديات دون دراسة أو معطيات، بل لا أحد يفكر بها وهو يهذي بكلمات وهتافات عاطفية دون فعل، أو الاستسلام الذي ذكرناه. فلا بد إذن من دراسة واعية ومراكز دراسات ترتقي بالناس وتوجه في ذات الوقت، تضع الخطط وتثقف وتدرب.

فاعلية السلوك:

فاعلية السلوك تظهر في المجتمع وتمثل ثقافته، كذلك في الحاكم وخطواته. ادعاء الحسن من الفعل والنتيجة هو كذب على الذات، يقفل طريق اليقظة والإصلاح ليستمر السبات، وهذا بالتأكيد يعني وجوب البحث عن الحقيقة المتجددة التي لا تملك، وإنما يكون الوصول إليها هدفا وليس الغاية للفعل؛ لأن مجرد الوصول إليها تكون الأمور قد توسعت وامتدت وأضحى المطلوب أكثر حداثة، فلا امتلاك للحقيقة، ولا يوجد نهاية للعالم ما دام الإنسان يعيش عليها والقيامة لم تقم.

الفهم:

إن فهمك لما تعتقد، هو ما ينبغي أن يجسد السلوك والأهداف ثم الغايات، ففهم المتدين للدين يمثل ما فهم وليس الدين، كذلك فهم المنقول من قيم إيمانية أو إلحادية أو أي ما يمكن أن يكون معتقدا للآدمي ومخرجات تفاعل فكره، فنحن نحتاج إلى الاستنارة بالحقيقة، وليس امتلاكها والجمود عند الظن بامتلاكها؛ لأن من يظن أنه امتلك الحقيقة، فهو لن ينظر لجديد ما لم يكن منفتح الذهن، فهو يستنير بها وتنعكس على أحاسيسه وخلجات نفسه، بل عموم سلوكه وإبداعه.

منهج الراشدين وليس ما اجتهد الراشدون:

النجاح الذي حققه الراشدون؛ لأنهم كانوا يفهمون المنهج القرآني؛ فعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ الذي تفتخر الأمة بعدله ولا يختلف على هذا اثنان، اجتهد اجتهادات لو فعلها أو استحدثها في عصرنا أي متصدر في الحراك الإسلامي، لخرجت أصوات تسفهه وتكفره، بل لشنّعت عليه أنه عطل الحدود وغيّر توزيع الغنائم، وكثير من الأمور التي احتاجتها الدولة والحكم.

تلك هي الطريق الصائبة وذاك هو منهج عمر اجتهد لعصره، بينما منهج يتبع اليوم لا يسمح بالتجديد وإدارة الدولة نحو المستقبل، بل الكل كسر رقبة الأمة بالالتفات إلى الخلف، ولا يريد أن يوقف الزمن فحسب، بل أن يعيد الماضي بأحداث التاريخ ومشاكله واجتهادات رائعة في عصرها لكن لا تصلح لعصرنا، ناسين أن الله جل وعلا ذم التقليد والاتباع الأعمى، ودعا إلى إعمال المنظومة العقلية والتجديد مع الزمان والمكان وتغيراته، وقال؛ إن القرآن مثاني (طيات) افتحوها وعيشوا زمانكم، خلاصة القول: ما لم نتوقف عن هذا، فهذه الأمة لن تنهض بل ستبقى في تخلف، محتقَرة مهانة عالة على الوجود؛ لا فاعلية لها بما يجري حول العالم من تدهور للقيمة الآدمية، فمن لا ينهض بالآدمية في نفسه لا يستطيع أن يرتقي بها لغيره.

التطور المدني:

اليوم أبسط الناس ممن يستخدم التقنيات الحديثة والابتكارات والصناعات، يعيش عيشة الملوك في الماضي. علماء عصرنا ومفكروه والباحث أمام حاسوبه، يستحضر علوم الأولين والحاضرين بكبسة زر. إننا إذن أولى بالاجتهاد من التقليد أو التصديق والتسليم الأعمى بما أنتجه فقهاء وعلماء لعصرهم وفق ما حصلوا عليه، لسنا مجبرين أن نقدس رأيا لأناس حديثي الإسلام في عصر لم يكن فيه إلا أربع نسخ من القرآن معتمدة ثم تزايدت، لكن لم تصل دفعة واحدة من دفعات المطابع في عصرنا والمتاح على شبكات التواصل وبلغات متعددة.

ليس هذا يعني أن نلغي ونحدّث، بل توسيع لحاء الشجرة الطيبة من أصلها الثابت لتنتج ثمارا ولا تقف متيبسة عقيما. إن واجبنا ليس تمجيد الماضي ونصرة المظلوم في التاريخ، ونحن لا ننصر الحق في الحاضر ونظلم الناس فنظلم بظلم أبرياء بل باختراع الحدث كما نهوى، ونوسع بيئة الجهل بدل أن نقاومه وندعو للعصبيات. وقد تبرأ الرسول من جنس العصبية حتى لو كانت لحب الدين من منطلق غرائزي وانفعالي ومهين لأعظم ميزة للآدمي، هي منظومته العقلية.

إن الحياة إلى نهاية كما بدأت، والكل عائد إلى الله بلا مال ولا جاه ولا منصب ولا نصرة لذاته أو خسارة أكثر من عمله وسلامة ما توصلت إليه منظومته العقلية، ولا يحمل وزرك أحب الناس عندك وأحبهم أنت لفؤاده.


https://arabi21.com/story/1510719/%D9%85%D8%B9%D9%88%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%82%D8%B8%D8%A9


101 - امـــــــة الزومبي

رابط عــــــ21ـــــــربي من عبادة الأصنام إلى عبادة الأعلام ملاحظات تحمل ألما أظهره باستحياء من أمه الزومبي، لمحة من سلبيات تحتاج حل لنحيا: ...