(ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل)
مرض وأعراض
لطالما أضاع الكثرة من الناس أوقاتا ثمينة من أعمارهم القصيرة نسبيا بجدل لا يفيد أو بتفكير في أمر عقيم وانتظار الوهم تبديد للحياة، ولعل الجدل العقيم من أبرز ما يضيع فيه الوقت والصحة، والأهم من كل هذا إقبال نحو الضلال بالعناد مع الحق أو تجاهله بنيّة تهميشه وتسفيهه.
النقد بتعريف مقتصب هو تبيان وصفي لموضوع الحديث فيه الإيجابيات وفيه السلبيات لذات الموصوف، وهو إيجابي النتيجة والمنطلق لتصويب وتعديل الفكرة والمنتج.
والانتقاد: هو التركيز على السلبيات في الوصف والتوصيف، وغالبا ما يتجه إلى المسارات السلبية في قراءة حاضر ومستقبل كل شيء في محيطه، وقد يظهر بشكل مرض وسواس قهري أو تلذذ بهذه الصيغة من القراءات السلبية، فتجد جدلا بلا هدف ولا قيمة للهدف إن كان موجودا، ومحاولة الانتصار للذات ولو بمغالطة المنطق.
* في هكذا جدل، لا تجد تتابعا منطقيا فيه ليكون حوارا، فلا أحد يسمع أحدا بمعنى السماع والإدراك، والكل يتكلم والكل يرد والكل عالم لا يحتاج لعلم رغم أنه قد لا يكون فاهما للموضوع.
* مصادرة للفكرة عبر الانتقال ما بين الفرع والأصل من الموضوع وفق تصوره.
* شخصنة النقاش والاتجاه إلى شخص المتحدث لتبيان انتمائه وتحليل غاياته السيئة وسلوكه السيئ وفق تصور المنافس، فلا تمكن تسمية هذا النوع بالمحاور.
* تجد الدليل يأتي بأن معظم الناس يتفقون على، أو أن القائد الفلاني يقول كذا.. وغالبا ما يكون هذا القائد المزعوم ممن يصعب نقده أو أنه دخل سور التقديس.
* يهاجم من يأمن شره ويتجنب من قد يضر بمصلحته إن أبدى سلبيته.
* التفكير الانتقادي يرى الشر المطلق، والإحباط انتصارا، والتجاهل والتهميش قوة في الشخصية.
التفكير الانتقادي سطحي:
غالبا لا يرتكز التفكير الانتقادي إلى فكرة واضحة فهو لا يهتم بالمناقشة والحوار من أجل الفهم، وإنما يهتم بإطلاق السلبيات التي تكونت عنده مباشرة، ويتجه إلى منحدر التأملات السلبية ليصل إلى أسوأ ما يمكن فيما لا يرى مصلحة فيه، وهو ذاته سيكون الأفضل والنادر والمنقذ إن كانت له مصلحة فيه.
هب أنك عرضت أن تذهب إحدى بناته للدراسة في جامعة ما، سيذهب حتما إلى أنها ستدرس في جو مختلط، وإن كل الطلبة ليس لهم حدود وقيم وأنها ستتعرف إلى أحد هؤلاء ثم تفقد نفسها، وهي لن تستطيع العودة إليه بعد هذا وربما ستضطر لتسلك سلوكا سيئا.. هو لا يقول إن قريته أو مدينته بحاجة إلى اختصاصها وأنها ستعود لتعالج سلبيات مجتمعهم بشكل علمي، وهكذا سواء درست الطب أو التعليم أو علم الاجتماع أو الإدارة والاقتصاد أو حتى المهارات في الفنون الجميلة.
التفكير النقدي والتفكير الانتقادي:
التفكير النقدي هو ضمان لدخول معلومة سليمة ومعالجتها وإخراجها لتكون فاعلة بسلامة، أي أنها متوازنة مدروسة محققة، لهذا غالبا لا تجد ردا سريعا من الذين بُرمجت منظومتهم العقلية على التفكير النقدي في الإنسانيات، أما في العلوم فهم يطبقون القواعد التي لديهم ليعطوك أسرع قرار ما لم تك حاجة تستدعي الإبداع؛ عندها سيكون التفكير والقرار بالمشورة أو الدراسة أو جماعيا، وغالبا في مجتمعنا نرى أن العمل كمجموعة نادر، وهذا من تأثير وجود تغلب لعقليات انتقادية تتكلم كثيرا ولا تنتج حلولا، وتنتقد كل ما يأتي أمامها مبيّنة سوءته دون ذكر ما هو صالح، وإن ذكر فهو رجم بالغيب بلا آليات متاحة للتنفيذ.
في العقلية النقدية تجد محاولة لالتقاط الفكرة الصائبة، أما التفكير الانتقادي فهو يذهب إلى السلبية حتى ولو كانت مختفية، ليجعلها هي المنظر العام لأي إنجاز.
العقلية الانتقادية ليست دائما لها غايات شريرة وإنما لا تفكر بمنطق بعيد يقيس ظرف الآخر، فقد يحب أن يزور صديقا لكن يفترض سلبيا أن صديقه ليس حريصا على التواصل معه أو زيارته، لكن الصديق يكون في شغل آخر أو ظرفه غير ملائم، وقد يشتري هدية لابن صديق على اعتبار سد نقص الصديق تجاه ولده، بينما الوالد لا يريد أن يشتري له هذا ليس لأنه غير مهتم أو لا أبالي أو ليس عنده ما يكفي، وإنما له نظريته في التربية.
الجدل ابن العجز:
عندما لا يملك الإنسان حلا فهو سيدخل في جدل وربما يناصر حلا ليس مدروسا ولا ملائما للبيئة والظرف، كذلك الحال عندما لا يملك القرار لتنفيد حلول يقترحها فإنه سيحس بالتجاهل والعدمية، وهو أمام حالتين: إما الاستمرار والتكديس لأفكار ونهايات سائبة، أو التوقف والانتظار.. ومجتمعنا أغلبه مجتمع انتظار لمنقذ أو لفرصة لا يعلم كيف ستاتي، لأنه لا يملك أمره وأحلامه أوهام لأنها تولد ميتة وتنمو في الخيال فيجادل دفاعا عن هذا الوهم الذي قد يكون مشتركا في شريحة من شعب أو من مصلحته نمو هذا الوهم ليديره في منفعة له.
فالجدل ابن العجز ينميه طغيان الأنا والذات وفقدان منطق التسلسل في التكوين كسفسطائية البيضة والدجاجة، فأنت لا يمكن أن تنتقل من ضفة إلى ضفة بوجود مقتربات الجسر فقط مثلا أو الجسر نفسه بلا مقتربات، وهذا يحصل في واقعنا عند فقدان المنطق وعقلية البناء والإعمار وهي مهمة الآدمية أصلا، وأي من هذه الإخفاقات ستجد وراءها الأنا، والجدل تجده في الشعوب العاجزة عكس الحوار الذي تجده في مجتمع متمدن تهمه الأهداف كعوائد للعام.
مجتمعنا
فالجدل السفسطائي الغالب على مجتمعنا لا يبقي ودا وينشر النفاق والتملق للقوي وتهميش الطاقات وإحباطها، فتجد تعظيما لشرير واضح الشر وتسفيه لعالم واضح العلم. الإنسان ليس شرا كله ولا خيرا كله، لكنه في التفكير الانتقادي إما شر كله فهو الشرير أو خير كله فهو ملاك مقدس لا يلبث إن سقط، أو ذهب الخوف منه ومن جبروته أن يتحول جدلا إلى الشطط والإجرام.