الصدارة السامة
هذا المصطلح هو تصحيح لمصطلح القيادة السامة؛ فالقيادة عرفناها في مقالات سابقة وبها عناصر الإبداع الفكري والوجداني، وهي عقلانية فؤاديه إنسانية متواضعة، تفعل المهم من أجل الهدف المدروس وصولا إلى الغايات، سواء في حرب أو سلم أو ما بينهما من تفاوض، فهي تسعى للنتائج بنوعية العمل ومراميه بما يجلب المصلحة، ويضاف في الإسلام أخلاقيته.
الصدارة تختلف عن القيادة بأنها تسعى للبروز موقعا ومكانة وجاها، والصدارة غالبا مسمومة قاتلة لصاحبها ومدمرة لمن يتصدرهم، فهي تسعى للبقاء حتى لو تضحي بالمعلن من أهدافها وبالشعب وبكل شيء، وهي لا تتصور أنها تفعل سوءا بل من لا يطيعها فهو خائن ومجرم، هي ذكية جدا تجاه هذه المصلحة، لكنها في منتهى الغباء في حساب المآل، والغالب هو عدمي أو تحييد للشخص في أفضل الأحوال، ووفق الظرف ومرونته ودرجة خطورته في صدارته وإمكانية ارتكازه، ليفكر ويتحول إلى أن يكون قائدا.
كل أمر في مسار حياة الآدمي، ينطلق من الإنسان ومآله إلى الإنسان ومنظومته العقلية وغرائزه وحاجاته، ومدى قدرته على إدارة الأمور وموازنتها، ودرجة الحاجة أو الاستثارة والإشباع للغريزة؛ التي إن تمكنت واستعمرت المنظومة العقلية وبنت مخيلات بقائها، فإنها ستستمر إلى الانتحار الذي يغلَف بعبارات الانتصار وإلقاء لوم الفشل على الآخرين؛ من ضمنهم الناس الذين يتصدر عليهم، ويزعم أنه يتزعم قضيتهم ويفكر لهم كقائد، ولعل نموذج نتنياهو مثال حاضر تسبب في جرائم حرب، واندفعت الكراهية لتتحول إلى ماكينة قتل للمدنيين، وهذا ينطبق على من ساعده في إتمام هذه الأمور؛ خوفا على كرسيه ومكانته أو أسراره.
سلوكيات عكسية
الصدارة استجابة لحالة غريزية، ويمكن أن تتميز عن القيادة بغياب البرنامج أو الفهم الإداري، وفقدان وسائل المراجعة والتغيير والتطوير.
الغريزة ليست أمرا سهلا، أو أن السيطرة عليها شعوريا سلسة، أو أن سيطرتها على الإنسان لا تظهر بشكل مؤثر سلبيا على المجتمع والحياة بشكل عام.
تصور الإنسان أنه يمتلك الحقيقة في أي أمر كان ولا يحتاج المزيد، هذه الحالة ستتفاعل مع غريزة حب السيادة والتملك، فتجده ينعزل اجتماعيا لسوء سلوكه وفرضه الأمور دون نقاش أو تصوره الوصاية على الآخرين. ذات الشيء يحصل مع المتمسكين بالدين غريزة، وعندهم كم من الحافظة، وربما مواظبون على دقائق العبادة، لكنه ينفّر الآخرين من تعامله ونزقه.
ونلاحظ أن أغلب هؤلاء ممن قفل عندهم المصدر والتطور، وأنه وصل الحقيقة وغيره تائه مبدد مبدل مؤول، وما إلى غيرها من الأوصاف؛ يأخذ الأمور بحرفية حتى آيات الكتاب وهي مثاني، ويعد اجتهاد بشر لعصرهم مقدس، بينما لا يسمح بالاجتهاد في هذا العصر لهذا العصر، يستخدم كلمات جارحة، وربما القوة، ولا ينتبه إلى أن سلوكه مخالف للنص والتفسير، ويأخذ بمعايير الدولة على الفرد ومعايير الفرد على الدولة، ولا يأخذ بالواقع والظرفية، ويقول؛ إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وهو يريد أن يعود الناس بالزمن، ولا يحس بسلبية فيه ويراها في غيره، يبني الحياة على الصراع، قاس في العقاب للآخرين لخطأ فيه لا يراه، يظن الصلافة جهرا بالحق، وهو ذات المنهج في بناء المدنية الغربية والعدو الضرورة.
إنه صراع مع الآخرين وأن الحقيقة هو يملكها، لهذا فأي مخالف يحسه خطرا على نمط حياته ولقناعته بأنه الأفضل، وأن الآخرين يتلقون منه ويطيعون فقط، فهمٌ يتعامل كناصح ولا يصغي إلا وفق قواعد النفعية ولإيجاد مواطن الاختراق، بل يُظهر كرهه للآخر عندما يرفض ضحالة طرحه.
المشكلة اليوم واضحة، أن المنظومة الآدمية في خطر، وأن عليها أن تستخدم منظومتها العقلية للإصلاح، وفق قواعد ومنطق العصر بحساب متغيراته نتيجة أي حدث أو مستجَد.
القدوة والخيانة/ الإلحاد
أي فساد في الإنسان هو نتيجة خلل بناء معلومة المنظومة العقلية للإنسان، هذا الفساد في المنظومة العقلية يصل إلى الإلحاد والتعصب الأعمى في كل دين وما يتبنى الإنسان، حتى لو كان متبنيا للعلمانية أو الليبرالية، ويظن أنه ملك الحقيقة، وأنه سيدعو لها كحقيقة مطلقة، وكأنها نهاية العالم في سردية فوكو.
الإلحاد والذهاب إلى ما يسميه الناس خيانة، بينما يصفه المنحرف عن قيمه ومبادئه وعيَ ويقظة النفس، والخلاص من القيود والخرافات، كلها إحباط. وغياب السلوك القيادي في دعم هؤلاء، وتفهم مشاكلهم النفسية وتجاوزها حدود طاقتهم، ووجود تأثير الصدارة السامة، فهم ضحايا الأنا وطغيان الغرائز عند المتصدرين، ممن لا يملكون شخصية القائد.
القدوة مهمة لتأطير أي مسار يوصل الإنسان ليختط مساره الخاص بأمان، فإن فقد الثقة بالقدوة أو انهارت نتيجة السلوك الخطأ، سواء كانت هذه القدوة أبا أو مدرّسا أو أحد الموجهين أو الوعاظ؛ تلاشت القيم أمامه ككلمات مبعثرة، وأضحى هو بحاجة أن يجمع شتات نفسه، فيلقي كل ما كان يشكل حملا أو واجبا نتيجة التديين ونقص فهم الدين -أي دين-، فيذهب لإنكار كل شيء بقوة بقدر قوة تمسكه بها؛ لأن القدوة التي تصدرت المشهد، لم تكن ذلك القائد الذي يهتم بهؤلاء المحيطين به.
إنكار القيم ينحرف بالسلوك، ولكن ليس بالمطلق حتما، ففرعون ناقش موسى عليه السلام ولم يعدمه مثلا، رغم أنه عذب زوجته، وكانت قد تبنت موسى عليه السلام، فعلاج الملحدين إصلاح فكرهم بالقدوة؛ لأنه عنصر التوازن في المنظومة العقلية.
وعلى الآباء أن ينتبهوا لسلوكهم في أسرهم، ولا ينبغي لواعظ أو سياسي التصدر ما لم يكن قدوة، ويكون قائدا وزعيما، وألا يتراجع إلا أن يشرح أسباب تراجعه، أو يعترف بأسباب هزيمته دون لوم الآخرين.
إن التصدر السام بلبوس القيادة سبب كبير في انهيار الأمة التدريجي، وتكوين منظومة تنمية التخلف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق