نظرة إلى المنطقة
إن نظرة واجبة إلى المنطقة تجبر المثقف أيا كان توجهه أن يقف متأملا ليكون مواجها لحقيقة وضع الأمة كجزء منها وليس كناصح أو معارض. إن منطقتنا اليوم تتفاعل بها أمور صعبة، لكننا نستبشر الخير الذي لا ينبغي أن يكون أمنيات، وإنما خططا ودوافع تبعدنا عن سكة نكون فيها عربات، ولكن لسنا قاطرة ذاك القطار المرغم على ألّا يغادر قضبان الانهزام التي يسير عليها.
دعونا نقر بأننا لا بد أن نبتعد بمركبة تقل قوى فاعلة تسير على طريق منحدر وسط جرفين تصعّد منهما أبخرة براكين، ولا نعلم أي مصير ينتظرنا إن لم نحسن التفكير بلا عواطف أو أحاسيس سلبية أو مواقف لا تتصف بالعقلانية؛ يعد أمامها ترفا ما اختلفت العرب عليه كناقة البسوس.
إذا نفكر بواقعية، هنالك دول ثرية وأخرى صناعية وأخرى تعبث بها المغامرة وسوء الإدارة، وأضحت كالثقب الأسود يسحب بمن يمسك بأطرافها إلى غياهب المجهول.
هذا واقع المنطقة فعلا، وعلينا أن ننظر بواقعية للأمور، ولا نراهن على رضا الصياد عندما تقترب منه طريدته وتقع في فخه، فتوفر عليه طلقة بندقيته، ليمسح عليها بهدوء قبل أن ينحرها.
فضاءات التكامل
اليوم، لا بد من إدارة فضاءات التكامل الإداري، ليس للقوة فحسب، بل لعناصر القوة من موارد طبيعية وبشرية وطاقات صناعية وعسكرية وزراعية، وهذا يعني فضاءات التكامل أيضا في إدارة الموارد المائية.
إن دول الخليج بالذات وكما ذكرت في مقالات سابقة، هي الأكثر قدرة على أن تكون نواة لأي عمل تكاملي جاد، فمنظومتها الخليجية المتمثلة بمجلس التعاون، يمكن إصلاحها وترميمها لتكون قوة وموطن قرار لتحالف وجودي أمام القادم مع تركيا، التي تشكل فضاء تكامل وانسجام مع الخليج، ليس لمعاداة أحد أو قطبا مبادرا لحروب، وإنما لتشكيل سياج عدم انحياز ودفاع مشترك أمام أي طارئ يمكن أن يذهب باستحقاق الأجيال في العيش الكريم والآمن.
الانحدار والفوضى:
في منطقتنا أنشئت كيانات متعددة، فمنها ما هو وظيفي يتفاعل معه ويتفاعل مع الواقع من خلال وظيفته السياسية والمال والأعمال أو الموارد الطبيعية أو كيانات سياسية تتحرك في معادلة المصالح، لتشكل كما يقال بيضة قبان أو تنفيذ محتوى رسائل لكل الفواعل في المنطقة، وهنالك من البلاد ما وُضع في قيادتها من يضمن تخلفها وإبقاءها كسوق ومصدر للخامات، وهذا في أفضل أحوال ما بعد الاستعمار والقيادة لمخططات في المنطقة.
المهم في هذا، أن المنطقة لا يوجد فيها نهضة ولا مراحل متكاملة لإنشاء تصنيع أو حركة نقد متكاملة، وإنما ممكن إيقافها في أي وقت من خلال تفكيك المفاصل، لذا نجد دولا بها أراض زراعية وتستورد خبزها، ونجد بلدانا نفطية لكنها لا تتحكم في السوق النفطي ناهيك عن الطاقة، فحلقات الكيانات هذه ليست كافية لتقفل دائرة التكامل للدولة.
هذا الانحدار يجعل البلدان معرضة للفوضى في أي وقت؛ لأن العمل فيها والدراسة وتهيئة الكوادر ليست منتظمة لتشكل تناغما أو تماهيا مع الاهتزازات التي يسهل إحداثها، أو تحدث طبيعيا في المنظومة لترسخ التخلف. فالدولة كمعنى الدولة المعروف وسيادة القانون ليست موجودة فعلا وإنما سلطات وبقايا هيكليات تثبت الوضع؛ لتحتفظ بالقدرة على استعادة الهدوء بعد أي اضطراب، لكن سوء التخطيط يجعل من بلدان غنية فقيرة، أو غنية وأهلها متمكنون لكن لا يصلون للرفاهية بحكم التضخم نتيجة اختلال حلقات الاقتصاد ما بين الإنتاج والمصروف فعلا، ودول غالبا تفيض بسكانها وأخرى تستورد كوادر عاملة دون أن تتمكن من صيانة ما تقوم بها الكوادر الأجنبية، وأخرى تفيض بالجهل نتيجة تنحي الحضارة الفكرية وتعاظم التقليدية، والفشل الحياتي والتربية التي تقوم على الأوهام والخزعبلات، وفهم الدين بطريق غريزية سطحية، وتحويله إلى طقوس يهرب بها الناس من حالة الضنك وفقدان التوازن، كلها تجعل أي حركة إصلاحية عدوا لنمط مقفل متخلف، اعتادت الناس هدوء استعباده لها، فتقمع الحراك لأمل حريتها الذي يبدو مخيفا.
ما العمل؟
ما ذكرنا من فضاءات التكامل، لا يقوم مدنيا من غير فكر حضاري رصين، لكن أي مصلح لا ينبغي أن يتصور كل مهمته كيف يوصل فكرته؛ لأنه سيواجه معضلة إقناع الخاصة قبل العامة بأي فكرة تنويرية، نتيجة رسوخ قناعات تعتبر مصدرا طبيعيا لأي فكر جديد. وهذا ناتج من ترسيب لثوابت وضعت بطريق لها نوع من النغم المنسجم مع التطلعات وقلة الجهد، فمن ثم أي مصلح هو مصدر هرطقة.
ورأينا في ثورات الربيع العربي كيف حصل الارتداد وهروب البلابل التي تربت في الأقفاص وأخرجت منها؛ كيف تطير عائدة مهاجمة لمن أراد تحريرها، خصوصا أن من أراد تحريرها كان أسيرا في فخ التقليدية والخوف من التحديث ومسايرة العواطف السلبية.
لا بد من تجديد الهوية وتوجه المفكرين لفعل هذا، ودعم بعضهم للوصول إلى مفرق طرق، والأمة تختار لأن الفوضى لا تنتج نظاما، والنوايا لا تصنع بالجهل صروحا، وسلطة ضيق الأفق لا تؤدي إلا إلى التخلف المدني والانحدار الحضاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق