الجمعة، 25 أكتوبر 2024

132 - القدوة في واقع التخلف الجـ 2ـزء المنقــــــــــــــذ

 


رابط عربي 21

قدوة النهضة:

من مشاكل المصلحين في احتلال مكان القدوة الكلام المباشر والصدق في تقديم الأفكار، ونظرتهم إلى الحقيقة وتفصيل الأفهام وشرحها، ورغبتهم بأن ترتقي الأمة إلى حيث يكونون جزءا من نهضتها لكن بيئة منظومة تنمية التخلف ستسفه وتقتل هؤلاء الأمل كأمر لا تتوقع غيره، فالجهل ليس عدم العلم وإنما رفض التعلم والقناعة بما يملك من الانطباعات والخوف من انكشاف الجهل.

نهضة الأمة كانت بالرسالة، ورأينا النموذج الأقرب للوصف والفهم في سلوك الرسول، فلم تك حياة الرسول في الخوارق وإنما كانت حياة إنسان وأسرة كأي أسرة في عصرها، والله جعل حياة الرسول كذلك ليكون درسا لأمة من عيشه في حصار وعزوف قومه عن الاستجابة فالهجرتين، علاقته مع أزواجه وحبه الذي يجعل خديجة رضي الله عنها قدوة لسلوك النساء وتفانيها لتبقى تسكن فكر الرسول ووفائه، إلى القيادة ومعناها والتعامل الإيجابي مع أصحابه وزعماء المسلمين.. هذه المحطات التي كُتب فيها وقيل الكثير تعرف القدوة، فحياة الرسول تمثل نموذجَ اليقظة في دعوته والنهضة في قيادته، وتحتاج أن تُفهم ليس كتاريخ وإنما كسيرة قدوة تنظف ما ترسب علينا كأمة بعدما رُفع عن الأمة تكليف الاختيار لحاكمها، وأضحى الحكام نموذجا للملوك يُخشى بطشهم وشرهم مع الزمن إلى أن وصلت الأمة إلى وضعنا في زاوية نظر أخرى لما وصفنا في الجزء الأول.

الأمة والمنقذ:

الناس يميلون إلى مداراة عجزهم بالخوارق والمسلمون كغيرهم من الأديان (جميعا) نقلوا الأحاديث التي تتحدث عن ظهور المخلّص وإن اختلفوا في ماهيته وظرفه. رأي ابن خلدون متقدم كثيرا لفهمه الإسلام وبُعده عن هذه النظرة، فالإسلام يرتكز على الإنسان وجهده وتفكيره وليس فكرة الخلاص بأنواعه.

هذه الأحاديث والفكرة لا توافق جوهر الإسلام وفكرته في أن الإنسان له فطرة سليمة مهدية للنجدين، وأن الإنسان له أهلية ومنظومة عقلية هي من تمتلك القرار في ماهية خلقها يحاسب الإنسان لمخرجاتها وأن للكون سننا يسير وفقها بذكائه فإن خالفها خسر، فمجيء المخلص استلاب لهذه المنظومة العقلية وتشويه للغايات والذهاب إلى عبادة فكرة وجعلها محور الحياة ومهمة الإنسان في عمارة الأرض. يظهر حاكم في الشرق أو الغرب فيقولون هذا المنقذ ويبنون في أذهانهم صورة له وطاعته، فإن أخفق بخطأ تنقلب تلك الأُمنية إلى انتقام وكأنه خدعهم ولم يخدعوا هم أنفسهم. إن النفوس المهزومة الفاقدة للعقلية السوية هي نفوس محبطة، وعندما يريد الإحباط بطلا فإنه يصف ذهنيا إنسانا خارقا منزها، يسد عجزه وكسله وكل المشاعر السلبية فيه، فإن لم يحقق هذا البطل المزعوم ما يفكر به المحبَط فإنه يتحول إلى أسوأ الناس وصفا ويعد عارا بعد فخر.

تمجيد الفرد القائد وتنزيهه ليس درسا من الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، والناس يعملون لبلدانهم، فمن استثمر وهم الناس به لصالح بلده لم يخن عهده مع الناس لأنهم من وضعوه في صورة رسمها مرضهم، ووعود تنقذهم من هزيمتهم وانكسارهم هو لم ينطق بها أصلا.

المنقذ هو الفهم:

في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم إفهام للناس أن يتكلوا إلى فهم واقعهم ويتعاملوا معه، وإلا لأزال الله أية عقبة تظهر أمام الرسول وصحبه فلا تكون عمليا نموذج قدوة، وعندها سنقول إن ما نواجهه يحتاج معجزة ونبي والظرف أقوى منا، ونستسلم مضحين بإرادتنا وأهليتنا إلى الأبد، لقد جعل الله جل وعلا من سيرة الرسول نموذجا لمسائل مهمة يتعامل معها الناس:

حمل القضية: فهم الرسول للرسالة، ومعناها أنها تدعم أهلية الإنسان وما تنتجه المنظومة العقلية، يوضحه مدحه لحلف الفضول في الجاهلية وأخذه بأسهل الأمور الصحيحة، كما أن أي باحث عن الحقيقة سواء كان مسلما أو غيره، يحمل فكرا دينيا أو علمانيا أو غيره، سيأتي بأفكار تخالف ما هو موجود لأن فكره بمشكلة مجتمعه قاده لهذا فهو سيواجه الانتقاد والتسفيه وربما التخوين والتكفير، وقد يتعرض للاضطهاد وأصحابه وهذا ما حصل لرسول الله، ويمكن أن يحصل لأي منا فنصبر ونصرّ على الاستمرار لحين تحقيق النصر أو تتبدل القناعات بالمراجعة والاختلاط.

التعامل مع العامة: التنظير وحده لن يخلق الثقة وإنما ما يوافق عقلية الجمهور من الظهور والشهرة وما يخاطب انطباعاتها وغرائزها كل في اتجاه اهتمامه وتكرار البسيط إلى الأبسط، فالأبسط مما يستثير الغريزة ليشعرها بالاكتفاء لاحقا بدعاء أو رجاء أو عرض الأمل من خلال تفصيل الحدث بعاطفية لا بعقلانية؛ لأن العقل للأمور وطرحها دوما هو ضد العقلية الغوغائية التي لديها هدف ما يدور حول العيش والاستقرار واستحصال الأشياء بلا جهد، لهذا فالقدوة ليس بالضرورة له أوصاف الانطباعات عند الجمهور، بل إن حيرتهم عندما حصل خلط الأوراق فيما يسمى الربيع العربي، ما جعلهم ينادون برأس من أنقذهم ليسومهم فراعنة سوء العذاب، وهذا التيه في البحث عن المنقذ وإحباط من يقومون بالثورات يجعلهم يأكلون بعضهم كما حدث في الثورة الفرنسية، لتنتقل إلى دورات حياة متعددة في مرحلة إعادتها إلى الملكية بعد أن لم يك مانعا عند إمبراطور كنابليون أن يفكر بتوريث حكمه دون وجود هالة الحق الإلهي التي سادت أوروبا الملكية، لكن أسقطته الملكية التي تحولت للدستورية لتعود الجمهورية بنابليون الثالث الذي كأي عسكري يتوجه للحرب فيخسر في ألمانيا.

القدوة هو في المتميز في كل عمل لكن هذا ليس دائما في منظومة تنمية التخلف، إذ عادة ما يزاح المتميز من قبل أناس تحركهم غرائزهم، ولا يجد من يعينه لكل ما ذكرنا في متن المقال، فهو ليس المنقذ دائما في نظر الناس، لكن المنقذ غالبا ما يكون حلما فإن أرادوا تحقيق أوهامهم فإن أحدا ما أو مغامرا يتصدى وسيرون كوابيس خيارهم في الواقع، وهذا لا يحتاج إلى مثال للناظر في عالمنا اليوم.

الجمعة، 18 أكتوبر 2024

131- القدوة في واقع التخلف -الجزء الأول - القدوة والحقيقة

 رابط عـــــربي 21

واقع ملموس:

الأمم عندما تتفكك مثل أمتنا الغثاء تستعين بالوهم لتداري العجز والوهن، والأمة الغثاء ليست عصرية أو ما نراه في القرن 21، بل هي كذلك مذ بدأت تتخلى عن القيم الواضحة وتتجه إلى التماهي بلا حلول وإنما تقبل الواقع ولا تديره. وهذا من الناحية الفكرية له عمق تاريخي يبدأ وبأشكال ومراحل وتأثيرات متعددة مع زوال الخلافة الراشدة وتشظي الناس إلى مجموعات؛ منها ما استمر وهبط بالجنوح وما زال مستمرا بالهبوط ومنها ما انكفأ على نفسه بحجة حماية بيضة الدين من الأهواء والبدع لكن توسع في كلمة البدع حتى بات يرفض كل جديد.

البداية:

البداية كانت الفتنة وتورطت فئتان من المسلمين في حرب لم يخطط لها وبمحصلة عناصرها تبدو متكافئة، لهذا كاد تجنب المعارك الفاصلة أن يذهب إلى استنزاف وقتل علية القوم، فالتجأوا إلى معركة لتكون فاصلة كصفين التي لم تك فاصلة لكنها تركت سؤالا: ما هو الحل عند تكرر صراع كهذا؟

هذا السؤال الذي لم يجَب عليه حتى الآن انتحى بالأمة إلى مزيد من التشظي والرعب عند الفقهاء من دماء المسلمين وما أعقبها في الطف، وكان آل البيت ضحايا بارزين في الصراعات المرعبة بالنسبة للمسلمين، فالتجأ الفقهاء إلى رفض ونكران تكرارها واجتهدوا بما يخالف جوهر الشورى والنص بمقاربة ولاية التغلب التي كانت موجودة فعلا من ولاية معاوية واتضحت بتولي يزيد، حيث ظهر الظلم وأضحت الأمة ضحية وغاب عنها ما منحها الإسلام من أهلية فردية ضمن المجتمع ككل وأضحى الخليفة ملكا، واستمر الأمر إلى عصرنا هذا بتغلب الضباط والعسكر بدل السلاطين وأمراء الحرب. والأمة تنتقل سابحة بلا هدى في منظومة تنمية التخلف، لا تعرف مهمتها ولا تتخلى عن كونها معلمة للآخرين، وظهر التمرد على هذا بشكل انهزام ودونية أمام المتغلب الخارجي بعسكره ومعرفته، ومن الطبيعي أن مقاومة الأمة تكون نخبوية لأن الموضوع لم تتوارث الاهتمام به كشيء يخصها وإنما تبدع في أن لا يأتيها منه الضرر.

هذا جعل نشوء الحالة القانونية بعد استيراد ما في الغرب غير فاعلة وهي أصلا العمود الفقري للنظام الغربي، فاصطدم القانون بعناصر التخلف والعادات والتقاليد السلبية عندما يتعامل بها في الشأن العام، فكانت المحسوبية والمنسوبية وأناس فوق القانون


هذا جعل نشوء الحالة القانونية بعد استيراد ما في الغرب غير فاعلة وهي أصلا العمود الفقري للنظام الغربي، فاصطدم القانون بعناصر التخلف والعادات والتقاليد السلبية عندما يتعامل بها في الشأن العام، فكانت المحسوبية والمنسوبية وأناس فوق القانون، بل في بعض المناطق أناس متألهون، وكلمة نقد (وليس انتقاد) عليها تكفي لهدر الدم.

عقدة القدوة:

النخبة تصنع القدوة، ومعظمنا يتصور عند نطق القدوة أنهم أناس مثاليون أو بلغوا من الرقي لأن يقتدى بهم، عبر التاريخ والواقع.. واقعنا اليوم لا تديره نخبة من هذا النوع وإنما أقلية مغامرة لا تفهم وتعتبر القيم مصطلحات للمتاجرة لكنها لا تطبقها.

سؤال هنا عن الحقيقة يبرز، أين الحقيقة؟ هل هي المفكر والإنسان النظيف اليد الكريم الخلق المعدم الذي لا جاه له ولا مال ولا تمكين، ويمكن أن يكون من الماضي في أية لحظة ثم في دهاليز النسيان؟ فالتاريخ يذكر المصلحين المتمكنين.

يقول بعض الأدباء ككافكا "إن الحقيقة حية متغيرة باستمرار". ما يرونه في الحقيقة أنها متغيرة لمن يتعامل بالمشاهدة والمنطق وغلبة الواقع، أما من يتعامل مع الماهية فالحقيقة واحدة وتتكون من أوجه متعددة متعلقة بالزمان والمكان كبعدين كونيين مهمين، لكنها تبقى موضوع بحث وتمحيص في المنقول من العلم والمشاهد واقعا، فالشك يوصلك إلى جانب من الحقيقة إن فكرت تفكيرا صائبا وليس عبثيا كما يفعل الملاحدة.. فهذا سيوصلنا إلى التلاشي والانفصال عن تعريف الإنسان ذاته.

والحقيقة في مسألة القدوة تبدو نسبية لمن ينظر إليها، لكن النسبي هو معيار القدوة، فمثلا في جهازنا المعرفي نتحدث عن معركة اليرموك فنذكر خالدا والاستراتيجية التي ما زالت فاعلة لكن عندما نتحدث عن صفّين نذكر الفتنة، وعندما نتحدث عن سليمان القانوني نظن أنه وضع القوانين لكنه في الحقيقة جمع القوانين التي تؤطر الحكم من أجداده إلى أبيه ورتبها ليستدل بها فلا يكون خارجا عن الشريعة.

الحقيقة في مسألة القدوة تبدو نسبية لمن ينظر إليها، لكن النسبي هو معيار القدوة، فمثلا في جهازنا المعرفي نتحدث عن معركة اليرموك فنذكر خالدا والاستراتيجية التي ما زالت فاعلة لكن عندما نتحدث عن صفّين نذكر الفتنة، وعندما نتحدث عن سليمان القانوني نظن أنه وضع القوانين لكنه في الحقيقة جمع القوانين التي تؤطر الحكم من أجداده إلى أبيه ورتبها ليستدل بها فلا يكون خارجا عن الشريعة


حكم المتغلب استمر حتى بعد سقوط الدولة العثمانية وهو مكتسب الشرعية العرفية وليس الشرعية القانونية وفق الشريعة الإسلامية، فنلاحظ الجمهور لا يهتم بالبحث أين الحقيقة وما مواصفات الحاكم المتغلب سواء بانقلاب عسكري أو سياسي، بل فيما سمي جدلا "الربيع العربي" استُغلت الجماهير بالعقل الجمعي في الانقلاب على نفسها بعد حين ليعود حكم المتغلب بدل المنتخب، ولنرى أن هنالك منظومات حركية فشلت في صد خيط العنكبوت لأنها لم تقرأ الواقع وإنما استمرت بالعقلية النقلية.

هذا يعود إلى القدوة وفهمها، فالناس لم يعتادوا أن يعبروا عن أنفسهم، فعندما أتاهم من يطبق العقد بين الحاكم والمحكوم انبهروا بالحراك ولم يفهموا نتائجه، فالقدوة عندهم من يحكمهم بالقوة وإن ابتسم ضحكوا، والذي لا يبطش بمخالفيه ضعيف، لهذا نجد أن ما حصل بما سمي بالربيع العربي لا منطق له ولا معيار وإنما أتاح فرصة لمنطق الفوضى والتفاهة لإسقاط تجربة لم تك مطلوبة كطريق وإنما كجسر لتغيير اقتضاه استقراء الواقع ممن يديرون دفته.

وهذه موجودة في التراث وثبطها الإسلام قليلا بجعل العلم معيارا والتقوى أساس التفضيل، لتعود مع الملوك بعد الراشدين إلى الشوكة والتغلب.

فالمفكر والعالم ما لم يك من المشاهير لسبب أو آخر ويظهر على الشاشات فهو ليس معتبرا ويمكن أن يسفهه أبسط الناس علما.

وإبراز التمكين يخفي العمالة والتبعية وظلم السلاطين، فكم من أمير حرب وُجد عبر التاريخ الماضي والحاضر يناجز العدو بالكلام بينما يُعمل السيف في قومه ويبطش بهم.

فالقدوة إذن والحقيقة مختلفتان، القدوة هي الواقع في الواقع ومنه سيئة أم حسنة، أما الحقيقة فهي ماهية ما يُنظر إليه لا مظهره أو منطق حديثه.

الجمعة، 11 أكتوبر 2024

130 - معـالم الفشل الجـــــــ 2 ــــــزء/ الافكار القاتلة

 

رابط عــــــــــــربي 21


تجدد الأفكار:

نجد أمرا راسخا في عقليتنا، وهو ارتباط انتهاجنا الانطباعي لما أصبح جزءا من العقلية التي تُرضع مع الحليب، إنك حامل لرسالة، ورغم جهل البعض أو معرفته مجموعة انطباعات بهذه الرسالة فإنه يدخل في جدل لأمور عميقة، لا يعرف أنه جاهل أصلا بل يريد أن يفرض جهله المركب لأنه يؤمن أنه الحق وغيره الباطل، وهذه ليست من المتدينين فقط بل أيضا من يزعم أنه ليس متدينا، ليبراليا أو شيوعيا، وحتى الأديان الأخرى في بيئتنا، لأن الأمر أصبح من السمات التربوية في المجتمع.

لا يوجد حوار الكل يتكلم:

أنت لا تجد من يصغي لك إن كنت من الرواد، أو يقرأ ليفهم، فهو ورث فكرة أنه معلم يعلم لا يتعلم، لذا يفكر بالرد عليك وأنت تتكلم، لتسفيهك بل يثبت جهله عليك، لهذا نجد أن الندوات والمجموعات بها حوار الطرشان، وأن مشاهير الميديا المتعاملين مع الثقافة هم من يرسخون المنهج الجاهل والخرافات والتدين الغريزي، وأن مراجعات الحركات السياسية فاشلة وهي لا تعلم من أين تراجع فجهازها المعرفي يجعلها مثالية تعلم غيرها الصواب.

مشاهير الميديا المتعاملون مع الثقافة هم من يرسخون المنهج الجاهل والخرافات والتدين الغريزي، وأن مراجعات الحركات السياسية فاشلة وهي لا تعلم من أين تراجع فجهازها المعرفي يجعلها مثالية تعلم غيرها الصواب


ضغط الحاملين لراية الدين سبب في جنوح الشباب، لأنهم يربطون صحة الإيمان بالتراث البشري ويساوونه مع الكتب المقدسة أو الأحاديث الصحيحة، ويعتبرون أي محاولة للتجديد هي هرطقة، هكذا كان ماضي أوروبا وهكذا نحن الآن.

لأننا من حيمن شخص مسلم تخلّق في رحم أمه فنحن وكلاء الإسلام، هكذا يفكر البعض ناكرا أن الإسلام ليس لقوم وإنما هو وطن، وهو مؤمن راسخ الإيمان بالانطباعات الموروثة وما رافقها من خرافات وخوارق ومعرفة غير محققة، فيها صواب وعشرات الأفكار القاتلة، صيغة من التدين لا تفهم المقاصد ولا الغايات، وبيئة عاجزة متمسكة بالماضي ولا تملك رؤية للمستقبل بل تخاف أن تشطح إن توافقت مع الرواد المجددين، رغم أن صلاحية الإسلام لكل "زمكان" هي لقابليته على التجدد.



هذا سبب ما نراه من تخلف عندنا وقتل الأمل بقناعة الاكتفاء وثرثرة لإثبات الذات بلا برنامج ومنهج وبفرض الجهل وأدواته، ننقل مشاكل الماضي ونجسدها في خيالنا ونفرضها واقعا كأنها كابوس يجب أن تعاني الأمة منه جيلا بعد جيل.

أضحى ترسيخ الوضع المتخلف مصلحة ومعاشا للبعض، فإن وعى الناس بكتاب فسيردون عليك بعشرات الكتب، وإن جاملك حَمَلة الدين (أي دين) اكتفوا بالصمت ولم يكفروك، وإن جاملك العلمانيون وغيرهم لم يخونوك.

أحلام بلا آليات

الناظر إلى تلافيف الدماغ الإنساني ومساحات التفكير وتخيل المسارات سيجد أن كل فكرة على الأرض هي من الخيال وهو التفكير خارج الصندوق، وتصبح وهما ما لم يتحفز التفكير لخلق آليات ومعطيات لإدخالها التجربة إن كانت علمية، أو التحقيق إن كانت فكرية، أو تحويلها من جانب نظري إلى الواقع ونجاحها فجعلها قانونا.

فلا بد من صنع أقدام توضع للفكرة كي تسير على أرض الواقع، لكن الأفكار القاتلة تقطع هذه الأقدام عندما يأتيك إنسان متنفذ بفكرة كسيحة ويريد أن يجعلها واقعا مستندا لوكالته عن الدين. سيقول لك التوفيق من رب العالمين، هو رب العالمين وليس ربك وحدك، وهو سيعاقبك أيضا لأنك هجرت أساس خلقك وما باهى ملائكته به وهو منظومتك العقلية، والتوفيق مكافأة لنجاح التفكير في صنع الآليات كدلالة على نجاح المنظومة العقلية.

التفكير السليم:

"إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم" (الشعراء: 89).. والقلب في القرآن في صدر الإنسان أي مقدمته وليس المضخة التي في الجوف، وسلامة الفكر التي توصلك إلى الجنة وليس العبادات وحدها: "لَنْ يُنَجِّيَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ، قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ برَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا" (الحديث في الصحاح)، فالأمر بإعمال التفكير ونجاح المنظومة العقلية، وتكون المكافأة هذه قيمة مهمة لفهم الإسلام بعيدا عن تغييب الوعي والتخدير.

الأخذ بالأسباب:

نحن أمة تستحضر خلافات من ماضيها ومن يستغلها هم شياطين الإنس من أبنائها، أو جهلة مقتنعون بتلك المنقولات التي تحرق الحاضر والمستقبل وتستغل الفاسدين، ومن يكون وقودها البُلهاء الذين لا يستخدمون تفكيرهم لفهم الدين حقيقة أو التاريخ أو الأفكار المستوردة أو أي من الحوادث والموروثات، والنتيجة طوائف وقوميات وروابط هابطة وأحزان وصراعات وبيئة لمنظومة تنمية التخلف


إن نصر الله لا يأتي لأناس عابدين، فالدعوة لها وسائلها للنصر، والحرب لها عدتها، وليس فقط الدعاء على الأعداء ينصرك، فربك هو ربهم، وهو سينصرك إن أحسنت التفاعل مع سنن الكون وأعددت التدبير، فإن لم تنتصر فانظر إلى موطن الخلل في شروط النصر في الإعداد والتفكير والتخطيط لأن الدفاع عن الحق عبادة والصلاة عبادة والدعاء عبادة، فإن جلست تدعو فلك أجر الدعاء لكن لن تنتصر وأنت في المسجد أو البيت، أو توانيت في التفكير ولم تبن استراتيجية صحيحة، أو تحافظ على عقيدة مقاتليك ونظافة يدهم وأنت تتكلم عن النظافة ولست نظيفا، ربما سينتصر من علّم أتباعه الشر وبنى منهجه على الشر لكنه أعد إعدادا جيدا، لأن الله رب هؤلاء جميعا ويمتحن منظومتهم جميعا.

ستقول لِمَ انتصر خالد في اليرموك وهم قلة؟ انتصر لأنه أحسن التفكير وتغلب على قلة العدد بالاستراتيجية، وخالد نفسه انتصر في أُحد والرسول والصحابة معه خسروا المعركة، لأنهم لم يطبقوا قواعد الاشتباك.

لا يحتاج أعداؤنا الكثير ليستعبدونا:

هل يحتاج السكران من يدفعه ليسقط؟ هل يحتاج الرعناء أحدا يغويهم ويحرضهم ليقع في المشاكل ويقتل الرعناء بعضهم؟

نحن أمة تستحضر خلافات من ماضيها ومن يستغلها هم شياطين الإنس من أبنائها، أو جهلة مقتنعون بتلك المنقولات التي تحرق الحاضر والمستقبل وتستغل الفاسدين، ومن يكون وقودها البُلهاء الذين لا يستخدمون تفكيرهم لفهم الدين حقيقة أو التاريخ أو الأفكار المستوردة أو أي من الحوادث والموروثات، والنتيجة طوائف وقوميات وروابط هابطة وأحزان وصراعات وبيئة لمنظومة تنمية التخلف، فلا يحتاج أعداؤنا كما نسميهم جهدا لنقتل أنفسنا ونركع لهم صاغرين، نهابهم ونقسو على من نتمكن عليهم من إخواننا، فهو أعد العدة ونحن فهمنا الإعداد خطأ، هو يبحث عن المستقبل ونحن نريد استحضار مندثر نخلق واقعه، وإحداث الفتن بدل أن نشكر نعمة الله في مسار أعطاه لنا في كتاب مثاني ذي طيات يمكن أن يفتحها الرواد في كل عصر.



إننا استبدلنا أصنامَ الحجر بأصنام انطباعات التاريخ ومسميات لرموز وضعناها، ولا ندري أننا بها مشركون ونطلب النصر والسداد والتفوق من رب العالمين، هكذا تكون الأمة غثاء تلطم بعضها بأفكار قاتلة.

ما هو مطلوب فعلا هو تعلم الإصغاء واستلام الأفكار المدنية والتفكر بها وتوسيعها، لأننا بحاجة ماسة لننقذ أمتنا من الرواسب السلبية.

السبت، 5 أكتوبر 2024

129 - معالم الفشـــــــل الجزء الأول الخطاب المتشنج

 رابط عربي 21


سردية الصمود ضد المستجدات

في خطبة موحدة ليوم الجمعة، وهي خطبة توزعها الأوقاف للواعظين على منابر الجمعة لأسباب عدة، تظهر الإخفاقات في الفكر السائد وفي الفهم للإسلام بشكل واضح، وتحشد لمقاومة الإصلاح والتغيير بشكل غير مقصود، وإنما هذا هو الموجود من الجهاز المعرفي الموروث عند كل المسلمين وغير المسلمين والعلمانيين والملحدين، وكل ما يخطر لكم على بال في بيئتنا المزدحمة بالأفكار والأيديولوجيات، ذات اللسان الذي لا يتوقف الأصم عن سماع المخالف الأعمى، عندما يُعرض عليه أمر جاد للقراءة. هم يستقون تفكيرهم من ذات الجهاز المعرفي، ولو تأملت من يزعم أنه ثائر على الأعراف، ستجد أنه يجعل من مخالفته هذه دين (الإلحاد، التحرر، العلمانية)، وتجد أن هنالك نوعا من العصبيات عند الطوائف تعدّ خطوطا حمراء عند من يعترض على العصبية والاستقطاب، ولا يرى نفسه أنه متعصب أو طائفي، وهذا ليس غريبا، فهو من سمات منظومة تنمية التخلف وفاعليتها وبيئتها وإبداعها في التخلف مع الزمن.

فعندما يحذر خطيب أو واعظ موجه من جهة عليا يفترض أنها دعوية من المستجدات، ويتخذ موقفا دفاعيا تجاه الانفتاح على العالم، فهذا مؤشر سلبي لدعاة يعدّون أي ضال هو مشروع إصلاح، وأي مخالف هو مشروع للتفاهم.

الإنترنت أضحى في متناول اليد ومتطور، لدرجة أنه يستكشف اهتمامات المتصفح ليقدم له المزيد مما يهتم به هو، لا تحده قيم ولا منظومة أخلاقية ولا قواعد اجتماعية، وإنما يضع قواعد تعدّ الثوابت عندك مخالفة لقواعد المجتمع.

أخذ موقع دفاعي من المستجدات باعتبارها خطرا هو الخطوة الأولى للاستسلام، لكن علينا فهم كل جديد ونصنف الإيجابيات فيه والسلبيات، وفق معايير ما بعد الفهم لما عندنا من فكر ينبغي أن يرتقي عن الانطباعات، ونحن في المجتمع مها كانت عقيدتنا الدينية أو فكرنا السياسي، يجب أن نفهم.

كيف نفهم:

طبيعة الإنسان الاختصار، والتعلق بسبب واحد للمشكلة؛ بمعنى تكوين انطباعات عن الأشياء والأفكار والاصطلاح الضيق لمفاهيم واسعة، وهذا التصور يسمونه تبسيطا، بينما هو تضليل للمنظومة العقلية.

الفهم يأتي من كفاءة المنظومة العقلية في تجسيد المعنى بشكل ملائم ليكون مقروءا، كتابة أو صورة أو مشهدا أو فكرة؛ ومن هذا فهم الفكر والكتب ونصوصها، وما يطرح من معاني وغايات في نصوص كتب الأديان لتعريف الغايات التي تحقق للوصول إليها مجموعة من الأهداف، وكذلك الأسس الفكرية التي ترسي عليها القيم، والقيم بأنواعها التي تعرف السلوك عند الإنسان، وهذا يحدد إما بمنطلق قيمة واحدة، أو مجموعة من المنطلقات التي هي معايير للسلوك كالأخلاق.

فالأخلاق مثلا هي معايير وليست صفة أو سلوكا؛ لأن المعيار يمثل حالة قيمية ثابتة الجوهر، أما السلوك فنسبي، ويعتمد على العقلية والنفسية ودرجة ارتباطهما لإحداث الفاعلية والبيئة والتفاعل إيجابيا أو سلبيا بين منظومتي الإنسان والبيئة، أو أي كيان من فرد إلى ألوف والبيئة.

الإسلام وضع معايير قيمية مرتبطة بالفكر، لهذا فالنفسية المرتكزة إلى الإيمان لا تتأثر بشكل فاقع بالمادية ودرجتها؛ لأن التأثر يعني اهتزازها عند الفقر وتكبرها عند الغنى؛ بل ربط العقلية والنفسية وهما محورا الشخصية بالفكر نفسه، لهذا فالفهم الجيد يجعل حالة التدين أقرب إلى المنظومة العقلية، وضعف الفهم يجعلها فريسة الحالة الغريزية، التي هي المفرق للسلوك المؤدي إلى الغايات من عدمه؛ وهذا له تأثير على إدارة مستجدات الحياة أو التلاقح ومدنيات أخرى قد لا تحمل فكرا حضاريا، فعندما يضعف الفهم يظهر الخوف من المواجهة، وتصبح القضية تمترسا ومقاومة بدل احتواء مطلوب؛ لأن الرسالة ليس ملك أحد ولسنا وكلاء لا عليها ولا على الناس، وإنما نحن مكلفون، ومن ضمن التكليف أن ندعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذه لن تكون فاعلة بفكر بعيد عن الواقع أو منفصل عنه، لذا كان من الضرورة بمكان أن ينقى الجهاز المعرفي المنقول وراثة، الذي يراد أن تحشى به تلافيف حافظة الجيل، الذي سيصطدم بأسئلة لم تتوفر لها حلول أو أجوبة منقولة من الماضي.

فيديو في الميديا يتحدث فيه رجل دين نزق عن موضوع لا يعني دينه، فأخذ يصف قومه بالرقي عموما وأنه ليس همجيا، ناسيا أن كلماته تعبر عن تدن في الشخصية كعقلية ونفسية؛ لأنه يخاطب انفعالاته وليس واقعا ملموسا. فالتعميم والتنزيه والتعريض بمواطنيه، ليست سلوكيات ناضجة وإنما همجية ينكرها عن نفسه ويصف الآخرين بها. هذا نوع من التعبير عن كراهية ومشاعر بدائية فاعلة لعصبيات لا تنسجم مع إنشاء الأمة، وهو أمر مضر بقومه؛ لأنه يبقيهم في حالة انفصال شعوري عن أمتهم وانتمائهم للأرض، لأنها إما لهم وحدهم وهذا ليس ممكنا، أو أنها ليست مكانا للاستقرار، فيتخذ الناس طريق الهجرة بحثا عن سلام متوقع، فيكون هو سبب الأزمة، ولا يفهم هذا فيزداد كرهه للمخالف ويتهمه بتهجير رعاياه. نوع من المتضادات تخلق شخصية مضطربة تبدو مسالمة، ثم تنقلب حاسدة أو صلفة في التعبير، ظانة أنها وحدها مظلومة، ولا ترى أن من تحدثه مرّ بذات الظرف والمظلومية.

الحاجة للإصلاح في كل المنظومة

هنالك حاجة لإصلاح المصلحين في منظومة تنمية التخلف واستخراج الأفكار القاتلة؛ لأن غياب الرؤية والتأمل والسكينة والتعمق، في الفكر ومحاولة التفاهم.

انتشار الفساد والممنوعات لا يقضى عليه بالوعظ؛ لأن من يتجه إلى هذا استغنى عن الوعظ ومحتوياته أو البيت وتربيته، وهو مسألة منفصلة عن الفكر بحكم انفصال الفكر عن الواقع، لذا فالحل بالقانون والتشدد على مسببات تلك السلبيات، فما ينتشر من فساد لا بد أن يكون من قوة فاعلة، فإيقاف تلك القوة من الرأس هو الحل، وليس مطاردة الضحية وترك هذه المنظومات الفاسدة حرة، ومتابعته من الوعاظ عند هذا لتقييم نتائجه كجهة رقابية، تعادل أي منظومة في المجتمع معترف بها، دون خوف أو تقوقع أو تقييد لنشاط وفاعلية وتوسع مدارك الأولاد.

135- جدلية ازدواج الشخصية في المجتمعات.. وصف الظاهرة (1-2)

رابط عربي 21 "مجتمعنا مضغوط بالعيش في التاريخ ويستدعي التاريخ فتطغى خلافات التاريخ على إضاءاته، فإضاءاته مدنية وخلافاته أُلحقت بالعقائد...