مدخل
من المهم التأكيد دائما على ضرورة تعريف الكلمات لقيادة المعنى بالاتجاه الصحيح.
ما هو التخلّف؟
أن تبقى في محلك أو تتباطأ في السير نحو هدف هو تخلّف، وأن يصبح هدفك اللحاق بالركب هو تطلّع نحو التقدم، وألاّ تعرف الطريق للوصول للهدف هو جهل، وأن تضع لك طريقا ومنهجا للوصول إلى الهدف فتلك محاولة جادة للحركة، وأن يقال لك هذا الطريق خطأ بالبراهين وتصر على طريقك المقلوب فهذه جهالة، أي انحراف فكري وانحدار حضاري مرافق لتخلّفك عن مسيرة الآخرين نحو التقدّم (المدنية)، وبمرور الزمن تحصل تنمية للتخلّف. وعندما تقاد هذه العملية أيديولوجيا عندها نصبح أمام منظومة هي "منظومة تنمية التخلّف".
في البداية كانت هنالك مدخلات لهذه المنظومة مختلطة ولكن كانت مخرجاتها تخلّفا وفاعليتها مع البيئة كانت تواجه نوعا من التحديات العاطفية الغارقة في الجهل.. وهكذا اختفت التحديات لتصبح المنظومة بكاملها -مدخلاتها كفاءتها مخرجاتها فاعليتها بيئتها- تشكّل حالة التخلّف التي نحن فيها.
إذن التخلّف عندنا هو عدم إدراكنا كم التخلّف الذي نحن فيه (الطريق، أسلوب التفكير، ردود الفعل، الأفعال). هو حالة الانحدار الحضاري في البيئة ومنظومتها، هو التأخر المدني، وما يعنيه هذا من تفاصيل تغطي مناحي الحياة ونواحيها.
نوعان من التخلّف:
1-التخلّف بسبب الانحدار الحضاري:
حينما تخرج عن أركان الحضارة تدخل في حظيرة التخلّف، فعندما تحوّلت الخلافة إلى ملك عضوض ذهبت ولاية الأمة ودخلت عناصر الظلم واغتصاب الحقوق والشعور بالغبن، وظهرت حركات يؤيدها العجز والحيرة، ولم تكن هذه الحركات إلا آراء متباينة فاحتاجت لدعم فكري، والدعم الفكري قد يكون رأيا مؤصلا أو اختلاقا.
ولعوامل الضعف وانتشار الهوى ومحاولة تكييف الأحكام لتبرير الجور في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ ولخوف الأمة من الفتنة جعلها تتجه للفتنة المؤصلّة على أحكام تاريخية كالتي نعيش فيها؛ لذا كان ضروريا:
1- التوقف والقول بضرورة الاعتراف بالتخلف الفكري والحركي.
2- الفصل بين أهمية السيرة النبوية في التشريع وعدم أهمية التاريخ، بل الدعوة للتوقف عن اعتبار أحداث التاريخ والصفحات السوداء فيه كأحكام تستنبط منها الأحكام الشرعية التي يراد بناء الواقع الإسلامي الجديد عليها؛ لأن هذا يعني إعادة تغذية منظومة تنمية التخلّف بطريقة محبطة قد تؤثر على استقرار العالم كلّه.
3- تغيير وتعديل للجهاز المعرفي بات ضروريا لنقل فكرة الصراع إلى فكرة التعايش.
4- فكرة الصراع وعدم قبول المخالف في حقيقتها نتائج لهذا الانحدار الحضاري الذي أضعف ارتباط الأمة بالسبب الذي جعل منها أمة فاعلة، أما الاحتلال وتمزق الأمة وغير ذلك من أمور يمكن سردها في هذا المجال؛ فهي محض إسقاط لهذا الانحدار الحضاري على أرض الواقع وحتمية تغلّب الهوية البديلة عند فقدان الهوية.
ويمكن قراءة ظواهر باعتبارها نتائج وفي ذات الوقت كعوامل قامت على مدى التاريخ القريب؛ بإعادة تغذية منظومة تنمية التخلف وبشكل مستمر، ومنها:
أ- أساليب التربية:
نلاحظ أن الأمة قد سُلبت منها إمكانية التعمق الهادئ بحكم التطبيقات الاستعمارية وضغوط الصنائع التي هي أشد بأسا وقهرا، بل إن ثقافات ولغات وحتى عادات فُرضت، واستحوذ على الأمة ما يشبه الاستسلام الفكري من خلال المسلّمات الموروثة والأمثال المتخلّفة والتي تُطرح وكأنها حِكَمٌ ومُسَلّمات. ونرى ما يدعو للتساؤل؛ لماذا يسارع الكثرة من الناس وبجهد مبذول ومشقة وراء ما يظنون أن فيه نفعا ماديا لهم -وقد لا يكون أكثر من دعاية مضللة- بينما لا يكادون يحرّكون أنفسهم للبحث عن الحقيقة والتخلّص من التشويش؟ ولا يبحث الكثرة من الناس عن الذي يرضي الله في الواقع، وهذا ما يعزى لوصف "الضياع، الغفلة، الجهل".
وهذه إنما هي نتائج، لكن المسببات -فيما أرى- هي دخول بعض الانطباعات إلى العادات فتدخل في طباع الناس مع التقادم بسبب أسلوب التربية الذي يقدّم نتائج مستخلصة قد تكون صحيحة أو خاطئة دونما نقاش، لأنها لُقنت دون نقاش أو شروح ويتم نقلها حسب الفهم لها. وهذا نتيجة لظروف الإرعاب التي ولدت الحاجة لإملاء المعلومات بحكم السريّة في التعبير عن المشاعر الحقيقية التي عاشت وما زالت، وتترسخ هذه الانطباعات مفقودة الجذور مزدوجة ومركونة، تخرج عند وجود استثارة لغريزة أو حاجة وتتعايش مع الزمن ولا تتعارض، ذلك أنها ليست مفاهيم يؤيدها الدليل كي تتعارض، فترى الشخصيات المضطربة الآمرة بالخير ولا ترى المضادة في سلوكها.. وهكذا.
ب- المخاض الصعب للخروج من العبودية:
تمر الأمة بمرحلة يسميها المفكرون بالصحوة، والحقيقة أنها ليست صحوة وإنما هي تشخيص للمشاكل وبلا حل، فترى الناس يطربون لكلام الدعاة ويمتدحونهم ولكنهم ليسوا على استعداد لحمايتهم، بل في أفضل الحالات سيقفون موقف المتفرّج عند إدانة أحد الدعاة ما لم ينضموا إلى قائمة المشككين بمصداقيتهم.
وما ينطبق على هذه الأمة هو وضع بني إسرائيل أثناء دعوة موسى (ص)، وبعد الخروج من التذمر جرّاء أي خوف أو توقع لأذى، والبحث عن صنم للعبادة، فتراهم يعارضون إزالة آثار استعبادهم وقد كانوا يكرهونها بالأمس. وهذا نوع من مقاومة إعادة التنظيم في أية منظومة.
2- التخلّف المدني:
ليس هنالك علاقة مباشرة بين التطور المدني والرقي الحضاري، اللهم إلا من حيث توجهات المدنية وتسخير مخرجات منظوماتها. وكان التخلّف المدني واضحا لفترة طويلة، فلم تبن أسس وقواعد للمدنية الحديثة، وباحتلال بلاد المسلمين وإكمال تجزئتها هيّأ المحتل هذه البلاد لتكون مستهلكة، وعندما نهضت الثورات كانت ثورات ليس لها برامج كاملة، وإنما تنطلق من توجه معارض وتشخيص سطحي ووضع حلول بلا بدائل لكونها حلولا غير مدروسة.
فالجائع يتصور أن مشكلة العالم هي رغيف الخبز بتعميم رهيب، ويأتي لينفذ خطته ليكتشف أنه دمر الكثير ولم يوفر رغيف الخبز فيقضي الوقت المتبقي قبل إزاحته من ثائر آخر لا تدري ما وجهة نظره، وهو يقمع ويقتل ويهتم بتثبيت ملكه، ويحتج بأنه فشل في تحقيق "برامجه ومخططاته الطموحة" لأن الإمبريالية والصهيونية تتآمر عليه لإزاحته لأنه خطر عليها. وبهذا الهذيان كانت منظومة تنمية التخلف قد ازدادت فاعلية ورسّخت التخلّف في بيئتها، إنها الجاهلية المعتقدة بهذيانها دون دليل.
ولعلّنا أصبحنا قريبين من الإجابة على السؤال لماذا نحن متخلّفون؟
أولا: التخلّف الحضاري:
عندما نجهل ديننا ونصرّ على جهله، ويتصدى الجهلة للدفاع عن قيمه بطريقة قتل العصافير لحماية البيدر أو وضع الرؤوس في الرمال، يصبح التخلّف الحضاري حقيقة، ويغدو المجددون شذاذ آفاق، ويخرج من يصدر الفتاوى المقلصة لحقوق الناس خوفا عليهم ولحمايتهم، وما ذلك إلا لعجزه عن المواجهة وتخلّفه.
ثانيا التخلّف المدني:
ليس هنالك من تطوّر مدني بلا استقرار وبلاد المسلمين غير مستقرة لعدة أسباب، منها:
1- أطماع الدول الخارجية.
2- تعدد المراجع الفكرية وصراعاتها على السلطة، وهذا ليس تعدد رأي وإنما تعدد مرجعية. فتعدد الآراء هو اختلاف الأحزاب في برامجها كعلاج وليس في المبدأ الأساس، فلن يُقبل بالشيوعية في هذه البلدان بينما عندنا كل أفكار العالم وتجاربه النظرية ولا تُحارب من الجميع مثل حضارة الأمة؛ جهلا أو كرها.
نشر في عربي 21 ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق