فشل منظومة الحداثة
عاملان يتفاعلان مع الإنسان بتأثير متبادل، هما الحضارة وهي في معناها الفكر المشكل للهوية وإطار الثقافة للأمة مهما تنوعت أو تعددت في تركيبتها، والمدنية التي هي تراكم للجهد البشري ككل لكنه يتطور في كيان مدني؛ دولة أو بقعة جغرافية عن غيرها وبأشكال متعددة. فنحن نرى بلدانا كالولايات المتحدة والصين تتصدر تنمية المدنية وتتسابق بها لدرجة تبدو أنها تفقد السيطرة على مساراتها، وتأخذ الدول الأخرى كالدول العربية دورا استهلاكيا، بينما هنالك دول نامية في ثورة التنمية كتركيا وكوريا، ويمكن أن تجعل اليابان في رأس القائمة لبعض الإنصاف؛ وتقدم في جوانب عسكرية إضافة لجوانب صناعية مثل باكستان والهند وايران.. التصنيف هنا ليس على الصناعة فحسب وإنما الكفاءة ومعالم التطور.
الولايات المتحدة التي حاول سياسيوها الانعزال عن امتدادهم الأوروبي، لم يكونوا بحاجة إلى أيديولوجيا أو سردية تجيب على أسئلة كبيرة وكذلك دول أوروبا، بعد أن أقنعوا أنفسهم بما فعلوه ويفعلونه بمعيار النفعية والبحث عن المتعة والرفاهية. أوروبا استسلمت لقيادة وتأثير الولايات المتحدة، والعالم بدا غير مقاوم بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، لكن نظامها ويتبعها النظام الأوروبي فاقد لفلسفة يستمد منها الثبات أمام المتغيرات مع تقارب المسافات وصغر العالم بتقدم التقنيات والمواصلات والاتصالات.
وكان للإنترنت دور كبير في هذا من ناحية إيجابية وأخرى سلبية، فهذه الاتصالات سارعت العالم ودوران الفكرة وتساقط الكلمات وإعادة تشكيل الجُمل، والميل للاختصار وقراءة الجمل وإعطاء الحلول التكتيكية، وهذا يثبط بناء الاستراتيجيات أو التفكير الاستراتيجي على المدى الطويل ويغير آلية حل المشاكل، وربما يسبب ألما لفئة أو شعب، عن طريق التعامل وفرض الهيمنة من أجل قوة الاقتصاد المبني على القوة وإخضاع الدول ذات مصادر الطاقة والثروة، كما أمسكت ورقة حماية الخليج ولم تك مخلصة بها لأنها كانت تعتبرها ورقة مساومة لإخضاع دول أخرى بطرق مختلفة، رغم أن قوتها الاقتصادية أغلبها تعتمد على بيع النفط بالدولار، إلى أن وصل جيل جديد للحكم لم يعد يحتمل هذا الأسلوب ورأينا حراك التغييرات الجيوسياسية الحاد في المنطقة، ذات الشيء حصل تجاه دول أخرى كفرنسا في أفريقيا.
أمريكا تصدرت العالم وفشلت في قيادته، فالقيادة تحتاج الى فلسفة أيديولوجية ليست متوفرة في الولايات المتحدة، فما لديها قيمة النفعية التي تجمع بها مجموعة من الآليات فشلت في أن تكون أيديولوجيا رغم ما يتكلم به السطحيون والمنبهرون في مجتمعات غيرها، وهم يرون منظومة السلوكيات التي نضجت لضرورات التعامل والتوازن المجتمعي؛ لتكون ثقافة محمية بقوة وصرامة القانون الذي يعني التفكير باختراقه اختراقا لنمط الحياة ككل، والذي بات اليوم مهددا وكأنه انتحار ذاتي بدواعي الرفاهية والمتعة والبحث في الضياع، لنرى الشذوذ الجنسي المقدس، وإرغام الآخرين على تبني قيم شاذة، وهذا يجعل من الولايات المتحدة ومن يشبهها في الغرب يشكل خطرا على البشرية دون أن يفكر دعاة الشذوذ والحكومات التي تحميه بمدى خطورة ذلك، مرتكزة على قوى يمكن أن تتهاوى في أية لحظة واقتصاد يعتمد دعائيا على تلك القوة، والحقيقة أنه يعتمد على اقتصاديات بلاد هي أول من يحس بالتهديد لمثل هذا المسخ والتشوه في النظام الدولي.
منظمات إسلامية منتهية الدور نحتاج منظومات بديلة:
في عالم تتأرجح فيه القوى المدنية العظمى لا بد من إيقاظ فلسفة فكرية تستطيع أن تنقذ العالم من هذا التيه، والظاهر من الإسلام هو ليس الإسلام نفسه وإنما صيغ مشوهة عمدا أو نتيجة تمشية سياسات الإخضاع والأطماع من دول محلية في العالم المسمى بالإسلامي، أو من دول خارجية متعاونة مع وكلائها الذين أورثتهم السلطة.
منظومة كمنظومة الإخوان المسلمين، من الواضح أنها شاخت وأخذت بالتفتت نتيجة الرغبة في الحفاظ عليها، إنها منظومة لامست إتمام 95 سنة على انطلاق فكرتها من مجدد توقفت عنده عملية التوسع والتماهي بشكل استراتيجي من أصل الفكرة، وإنما كانت براغماتية ارتجالية تقف عندما يطلب منها تجاوز الخطوط الحمراء.
إن أي منظومة تعبر جيل ولا تتحقق في ريادة الحكم وهي ترتكز عليه في فكرتها لا بد أن تتقاعد لأنها لم ولن تتغلب على التحديات، وهذا ظاهر الأمر لكن في داخلها تقوقعت وجف ينبوع التطور فيها منذ زمن؛ وتعتبر أي تغيير أو تعديل هو تهديد يتناغم مع التحديات. هذه المنظومة لن تنجح لأنها عندما تستلم السلطة ستحكم بقوانين الطغاة ولا بديل لديها لأنها تعيش في الماضي، ولم تنتج ما يقود حاضرا تستلمه وتركز على الولاء وتعطي درجة أدنى للخبرة، فلا قانون الطغاة يحكم الطغاة أو يدينهم ولا يعيق امتداداتهم التي هي أسوأ منهم. إذن هي الثورة المضادة فيظهر فشل منظمة لم يكتشف فشلها نتيجة المحرمات على التجديد الفكري والوقوف عند علوم الأقدمين، بل تقديسها واعتبارها ثوابت لا تُمس وقد يُعزل مخترقها.
وهنا كان الاختراق عشوائيا وأنتج أناسا ناقمين على الحركة متطرفين في ردود الفعل ضد كل السلمية التي فشلت في تحقيق شيء، ونتج أيضا أناس يقدسون الماضي بأنه النموذج الذي لا يطال وانحصرت مثاني القرآن المكتشفة على التغني بما يكتشفه متحررون نسبة لغيرهم كالغزالي والشعراوي، وأصبح العداء مع الأنظمة القائمة سمة أو تعاونا منقوصا مشروطا والخطأ في جمود المنهج وتقديس الأثر القريب والبعيد.
الغاية من هذا الكلام ليس توصيف أسباب ما آلت إليه الأمور ولا انتقاد الحركة، وإنما القول باننا بحاجة كأمة إلى فكر يستقرئ الواقع لاستنباط ما يقود هذا الواقع لإنقاذ البشرية؛ فما يحصل من تقليد أو الانبهار أو التبعية هو ظلم للآدمية وقيمة الإنسان.
إنشاء منظومة جديدة بفكر جديد تؤسس لفكرة حكم رشيد تفيد منه النظم الحالية لإصلاح ذاتها وتقوية وضعها؛ أمر مهم لأننا أمة ضائعة بلا هويتها ولا بد أن يضحّي الكل ويصغي لحركة التاريخ خشية عبور طيات الفكر، ونحن في سبات أو نقتل الأمل، فليس معقولا أن تستمر الأمة في صراعات داخلية ولا تتصالح مع نفسها وتنتج فكرها وتفيد من ثرواتها الحالية والقادمة في الطاقة العالمية، ليس معقولا أن يكون الصراع بين الحكام ومنظمات الإصلاح وإنما ينبغي أن يتفقوا على كلمة سواء لتوحيد الجهد والبناء المجتمعي والقيمي التدريجي مهما امتد من زمن، وتكون عكازة يستند القوى العظمى عليها وتضربها بذاتها أو بخلافاتها مع النظم؛ بينما هي مؤهلة إن فكرت استراتيجيا أن تقود العالم إلى الرفاهية والكرامة الإنسانية والسلم العالمي والحديث عميق لم نتغلغل إلى أعماقه.
نشرت في العربي 21