الأفكار خارج التطبيق:
علينا أولا أن نميز بين الفكر والأفكار، فالفكر هو ما له أجوبة عن الكون وما فيه والإنسان وماهيته والحياة ومسارها، أما الأفكار فهي تمس الحياة وما فيها، وغالبا تأتي من خلال تأثير الواقع على الإنسان المفكر فيبحر في وضع الحلول. وكل ما يُطرح هو جميل ولطيف ومغر باتباعه؛ من أفكار علمانية ليبرالية أو حتى دكتاتورية وأفكار رأسمالية أو شيوعية (ولنقل أفكارا اشتراكية فلم تصل أمة حديثا إلى تطبيق الشيوعية ولن تصل قطعا)، وكذلك الكلام عن الإسلام وما يقترحه المفكرون من حلول للحكم والدولة.
أما الحديث عن القيم والأخلاق، فإن الليبرالية والنظام الرأسمالي والحداثة عموما لا تتحدث عن الأخلاق أبدا، وإنما منطلقات الحداثة مذ بدأت يمكن أن نسميها قاعدة أخلاقية منفردة (النفعية)، وما نراه من سلوك هو منطلق من قاعدة النفعية ومنها ما يتحد مع الإنسان كأحاسيس مرهفة عند البعض، فتبدو تلك السلوكيات وكأنها مدعومة بقيمة أخلاقية عليا لكنها ليست كذلك.
ذات الشيء في الحديث عن القيم والأخلاق على المنابر أو القداسات بأنواعها، فإننا نلاحظ أن ما يُذكر في خطب الوعظ هو عالم آخر يعيشه المؤمنون الذين يحضرون صلاتهم، لكن مع انتهاء الصلاة تنتهي العلاقة بما قيل لأن لا وجود له حتى بأسلوب مغادرة المكان واقعا، فالناس غير الناس في السلوكيات التي ترتبط بواقع مادي قاتل وليس بجو السكينة النفسية، وهذا انعزال تام من المجتمع عن أهم منصات التربية المجتمعية.
لماذا تفشل المسارات الفكرية والقيمية
هنالك المتعدد من الأسباب لظاهرة الفشل في الإدارة من الإسلاميين كما الشيوعيين، ومعالم الفشل التي تتسارع في الظهور في الحداثة بعد أن قل سمك الغطاء الدعائي والإعلامي من خلال توسع المعرفة وانتقال المعلومة صوتا وصورة، وهو ما وفره التطور العلمي الذي من الخطأ حسابه على أي نظام، ذلك أنه جهد بشري منفصل انتقلت عملية تطويره بين الأمم، فهو جهد وإبداع الإنسان أي كان معتقده أو فكره أو أي صفة معيارية يمكن أن توضع مع مرور الزمان.
فشل الحركات الوضعية العلمانية:
عند التطبيق تأتي مواطن الخلل، فالنظرية الشيوعية قامت على أساس صراع العمال فيه، لكنها أتت في بلد زراعي، وسادت طبقة وفردا، وقُتل المخالف بلا رحمة، وفشلت في النظرة إلى الإنسان والكون، والحياة بالممارسة. الحداثة موضوعها طويل لكنها فشلت في تحقيق ما وعدت به، وتتهرب منه بالتحديات المفترضة والحروب الكونية، ونرى من المقلدين كم من الطغاة والمستبدين وممن هيمنوا على الشعوب حتى اختلت الموازين ورجاحة الرأي عند الشعوب، فمن جهة تريد الخلاص ولكن عندما تبدأ آلام المخاض تقفز عائدة إلى قفصها وتريد دكتاتورا وتترحم على دكتاتور، كمثل العبد الذي سئل إن كان عندك مال كذا ماذا تفعل به، قال أشتري سيدا يعاملني برفق.
إنها مسألة جهاز معرفي لشعوب عاشت في إمبراطوريات لأجيال طويلة، ولها تصور عن الحكم والسلطة ومعنى الحياة مختلف عمّا تزعمه أو تتفاعل معه من أفكار.
فشل الحركات الإسلامية:
الحركات الإسلامية فشلها أنها لا تتمكن من السلطة، وإن تمكنت فهي عاجزة عن نقل الفكرة إلى الواقع فلا يبقى لها إلا الاسم الذي تشبعه تشويها وتكون أدوات ضلال بدل أن تكون أدوات هداية، بل هي نفسها يظهر عيبها في الاختبار فينعكس السوء في التنظيم على التشرذم والانشطار والخصام لدرجة الفجور في وصف المخالف وإعانة المضادين لفكره الإسلامي ورؤيته المدنية على من كان معه في الأمس بل ضمن تشكيلته في السلطة، والعكس صحيح، أو السلوك في الفساد الإداري والمالي الذي يبدو مقززا جشعا وإما يبرر ذاتيا فيكون فسادا مقدسا والخروج عليه خروج على الله؛ أو أن الفاسد يتكيف مع الفساد فيكون أشرس ممن لم يعرف الدين لأنه ييأس من رحمة الله وهو خائن لأمانة الله حسب منظومته الفكرية.
الفشل نتيجة التكوين:
التكوين التنظيمي
في العهد السلبي يلتجئ كل من يحس بالظلم إلى الجامع أو الحسينية وهناك يلتقط أثره من له تنظيم حركي، فيفرغ إحساسه بالظلم إلى أن يعتقد التنظيم أنه من "أهل الثقة"، وهو حتما سيتصدر الواجهة عند تولي الإسلاميين السلطة فيعود إلى أصله ليعوض ما فاته؛ بأن يكون كيرقة تأكل كل ما أمامها من حرث وتفتك بمن يعترضها من نسل، ولا نظر إلى "أهل الخبرة" الذين يريدون بناء البلد فلا يمكن قيادتهم من أناس متخلفين فاسدي العقلية والنفسية.
التكوين الفكري:
غالبا ما تلجأ التنظيمات الإسلامية للتعامل مع التاريخ وليس مع الواقع، وتأخذ باجتهادات الأولين ومشاكلهم وصراعاتهم وتنقل الماضي إلى الحاضر فلا ينطبق مع الواقع بل يقلقه ويجعله مضطربا مخيفا مرعبا متخلفا منحدرا فكريا حضاريا ومتراجعا متخلفا مدنيا، والقيادات في حيص بيص تريد تطبيق شريعة من اجتهادات عصور غابرة لم تعد صالحة للواقع، بدل أن تجتهد من خلال استقراء الواقع وإنتاج الحلول، وبدل أن تعتبر أنها مكلفة كما كُلّف السابقون والقرآن ينزل؛ اليوم تنقل التراث البشري بقدسية، فلا تجد في الأفكار الناتجة عن الاستنباط إلا مشاريع إدارة فاشلة ولا علاقة لها بالواقع بل هي مشكلة بحد ذاتها تحتاج علاجا.
مرة أخرى هو الجهاز المعرفي ذاته الذي يجر الأمة إلى التخلف والعبودية ويجعلها هدفا للاحتلال والاستغلال والتبعية وقيادتها من الرويبضات، وإحباط الطاقات والعلماء والمفكرين والنوابغ في الأعمال المدنية.
ما المطلوب؟
كما ينقل الإسلاميون الماضي لواقع مختلف بلادة وغباء؛ ينقل العلمانيون تجارب الآخرين بإسقاط تاريخي لا يمكن وصفه بغير البلادة والغباء.
كلها -علمانية وإسلامية- قوالب جاهزة تقليدية لا تنطلق من الواقع وإنما تستنبط من فكرة بلا استقراء للواقع، تطبيقا تقليديا وعيش حالة ازدواج بسبب التطور المدني، مع سوء فهم أن الإسلام هو قرآن وحديث وسنة نبوية، وليس ما نتج بعد وفاة الرسول من خلافات سياسية وبدع واختلال مرضي بالعقلية والنفسية قادت الأمة إلى واقعها الحالي.
المطلوب إصلاح الجهاز المعرفي وترك الماضي للماضي، والنظر إلى الحاضر وفتح مثاني القرآن ورؤية الواقع وإدارته بشكل حسن، وفهم أن الدولة في الإسلام تحافظ على الأهلية لكي يختار الإنسان وعليه يحاسَب من الله؛ لا أن نكون نحن الله في الأرض، وما على الدولة إلا البيان وإدارة الحياة.