https://m-salihalbdrany.blogspot.com/ فكــــــر اليقظـــــــة Mindfulnesshttps://m-salihalbdrany.blogspot.com/

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 13 ديسمبر 2025

217- نخبة المعرفة الجاهلة لجهلها

 رابط عربي 21


جدلية المعرفة والتعلم:

في زمن مر وما زال أثره فاعلا عُرّف المثقف أنه يعلم شيئا من كل شيء، ثم عُرّف النابغ هو الحافظ لأقوال وأشعار وكتب، بل إن التعليم عندنا نشأ على إعداد موظفين للدولة ولم ينشأ على التعلم من أجل التفكير بالمعارف وتطويرها، لأن من أنشأ التعليم الحديث عندنا هو المستعمر، والمستعمر عدده قليل نسبة للبلد فيحتاج متدربين على تفكيره من أهل البلد لتسيير مصالحه، وعلّمهم اختبار الحفظ وليس الفهم، والسرية في المعلومة بأن تحصر بيد عدد معين، وليس عدم تهويلها، فترى المدير ولحد الآن يمنع الوثائق والمعلومات عن أصحاب الاختصاص ويبقيها بيد الموالين له فلا يزداد البلد إلا تخلفا.

المشكلة تزداد تعقيدا عندما يثق مكدّس المعرفة بمعرفته بلا معالجة تلك المعرفة؛ فيجعلها معيارا، أو يستقيها من الموبايل والحاسوب ويمكن أن يطلع على أي شيء جديد عليه ليضيفه إلى المخزن، ويسرب منها إلى التواصل الاجتماعي فيعمل المادحون على تأكيد وهْم الصفة بأنه مثقف، ليخرج إلى المجتمع معارضا مناقشا أدق المقدسات، وهو لم يعالج معرفته، وإنما ينقلها (قال فلان) أو يقتبس بلا مصدر الاقتباس، وهو في حقيقة الأمر لم يعالج المعلومة وإنما قبلها كما سمعها بلا تفكير.. إذن هو لا يحتاج إلى التعلم، ومن يحس أنه لا يفهم قوله أو يأتي بأسلوب جديد يسفهه وينتقده، ويوجه إليه عبارات بنبرة التقليل من شأنه.

خطورة الخزان للمعرفة:

خزان المعرفة لا قدرة له على حل مشكلة ولا إبداع، لأنه أصلا غير مؤهل لكنه من بيئة منظومة تنمية التخلف، فاكتسب مكانة ربما لم يكتسبها المثقف العالم الذي غالبا ما يكون مهمشا في مجتمع سلبي لا يعالج أي موضوع في منظومته العقلية وإنما يأخذها انطباعا جاهزا وربما يضعها سهوا أو عمدا في رف المقدسات، لأن المقدسات لها مكانة عند الناس فهم يرفعونها ويعظمونها؛ لا لأنها تؤمن بها وتدير سلوكها بل لأنها تحتاجها في تحقيق غريزة حب السيادة والتملك وغيرها، فالبحث والاستقصاء مفقود والناس يسمعون بألسنتهم ويحولون ما يسمعون ككرة الطائرة.

جدلية الجودة والسوء:

ما كنا نلاحظه في جيل سبقنا ومات في جيلنا وفُقد في الجيل الحالي هو أمر جلل، ومنه الصرامة والدقة وعدم التساهل في الصواب، بدءا من المظهر، وكان الشاب يقول نخرج عربجية، أي لا يرتدي الزي الرسمي لدخول السينما مثلا أو الجلوس في القهوة (التي تسمى الآن كافي)، أو عبارة "شرب له على قدر فلوسه"، أي أن جودة عملك ومهارتك وفق ما تحصل عليه من مال، فلم تعد المهارة والإخلاص جزءا من الذات الداخلية، بل أصبحت تحت تأثير التعرية والأحداث بدل أن تكون ضمن الثوابت.

والمهارة نوع من الثقافة التي يملكها عامل البناء المخلص، والقصّاب، والتاجر، ومصلح السيارات بصنوفها، وهكذا، عندها ستجد أن كل ذي مهنة معتز بمهنته، ويحاول أن يطور نفسه بها وأن نجاحه هو في قدرته على تطوير الذات، فالناس الذين انشغلوا بتقييم الآخرين من خلال ذاتهم هم أناس متخلفون وعاجزون بالعجز المسبب للإحباط، فالتقييم هو تقييم الذات! أنا فلان كنت في العام الماضي كذا؛ هل تحسنت في إنتاجي أو مهارتي أو خدمتي للمجتمع؟ ولكن هذا لن يكون عند امتلاكي المعرفة وإنما عند انغماسي في التعليم، والصرامة تجاه نفسي أولا، وسنجد أن هذا النوع يطفئ اللهفة ويسد النقص ويستر العورة، بسيط مهتم لأمر نفسه ليس بغرائزه وحاجاته، وإنما بإنجازه ودوره في البناء ومساعدة الآخرين. فالحلول والابتكار هي واجب المثقف ومعيار ثقافته وليس قدر معرفته، فالمعرفة تحصيل حاصل، بيد أن تهذيب النفس هو تثقيفها لذا قالت العرب على تهذيب الرماح تثقيفها.. فصورة الفشل تتمثل فقدان الدقة والمهارة والانتماء إلى الأمة بتوسيع الحجم.

هذه الصرامة وما تحدثنا عنه، هي من تجعلنا ننبهر بدقة زخرفة وإتقان بيت قديم، أو أثري للسكن، يمكن أن يكون بلا ملامح لغياب الأجهزة والعدة، بينما الآن هنالك عدة تختصر زمنا طويلا، ولكن الجودة مفقودة والثمن مرتفع وربما بلا ذوق، ولأن المجتمع أمرضه اليأس تجد الناس يتجنبون بعضهم ليس لأنهم سيئون وإنما لأن قدرتهم على العطاء ضعفت. وهذا سببه سوء سلوك البعض، فضاعت الحقوق وهدرت السمعة، فوجد المسالمون السلامة بالاعتزال لدرجة الانفراد وفيها يجد نفسه.

ما هو الحل؟

بكلمة: التوازن! والتفصيل كثير لأن التوازن يتطلب إعادة تنظيم حياة المجتمع وإعلاء القيم، وهو لا يأتي بضخ الكتب المقدسة وحكمة الأولين في ذاكرة الناس، وإنما استعادة الصرامة والثبات على القيم على قلة ما تعلم. فالمعرفة ليست مشكلة أبدا، وإنما تطويرها واستثمارها والصدق، وغيرها من القيم وأهمها أن تكون صادقا مع نفسك، وليس وصفك الناس بالسوء لأنهم لا يحققون رغباتي ولا يعطوني قيمة أفترضها لي، وهي ليست حقيقة أو تساير أهوائي.

التعلم الفردي وغياب المجالس العفوية ومعاني المدرسة والحوارات الصافية، والخلاف من أجل الوصول إلى الحقيقة وليس الاختلاف من أجل المصالح الضيقة، وسيادة الأشخاص الإمعة الفارغين وقيادة الطامعين الجاهلين، واستغلال المواهب بلا تشجيعها، وكذلك الطيب وعطائه بلا إنصافه، والغدر بالصديق وغياب المروءة.. كلها عوامل تحتاج إلى دراسة ومنظومة تدريب وتطوير وتنسيق مع الحكومة لإسقاط ما يتعلمونه على الواقع، وإلا كمن يخطب بالأخلاق وينزل عن منصته لترى سوء الخلق متجسدا به.

إن اكتفاءنا بما عندنا من علم، وما نقدمه من خدمة دون تطوير ذواتنا، هو مشاركة في سقوط وانحدار مجتمعنا. واليوم العالم كله يغلي بالظلم والظالمين، بل وحب الظلم بقدر كره من يحب الظلم أن يقع هذا الظلم عليه، ولو تتبعت تجد أن الظلم مصدره ظلم هؤلاء الناس لأنفسهم بضلال الطريق، وهذا هو المرض الذي أعطينا حلا واحدا له وهو إنشاء مراكز دراسات وتأهيل تنسجم معها أنظمة المجتمعات.

السبت، 6 ديسمبر 2025

216 - امتلاك الحقيقة وهم مرضي

 رابط عربي 21


الكل يناقش

كل إنسان يناقَش فكره، والكمال لله، ولولا الوحي وما ينطق عن الهوى لنوقش خير البشر، ورغم ذلك نوقش ولم يضجر ممن يناقشه، لكن هذه الحماية ليست لشخصه وإنما محددة لمسار ومعايير فكره من أجل هذا نزه الله قوله ورفع ذكره، وإلا فلا يحمل القول الثقيل من لان ستار بنيانه وأضحى قوله كقول البشر في أمر الوحي. لذا ميز الرسول نفسه بين قولين له في أمر الدين والدنيا. ومن ثم علينا أن نميز بين الحضارة المحمية كفكر وعقيدة، وبين النشاط المدني فهو للناس.

نحن في امتحان القلوب

فالله وضعنا على الأرض ليمتحن تفكيرنا، فنحن لسنا مالكي الأرض وإنما هو الإنسان فيها كقاعة امتحان تمر فيها وعلى رحلتها أجيال من الممتحنين، فمنهم من يعبر إلى أعلى المراتب ومنهم من يرسب ويعيد وربما يطرد من القاعة. فالله يمتحن البشر وليس ليسيّر أمورهم بالحتمية أو رسم مسارهم بالتفصيل ويلغي كينونتهم. في علم الله كل أمر معروف لكن الله وضع المقادير ووضع السنن، فمن وافق سنن الكون بحسن إدارته فاز ومن خالفها خسر. وتمكين الرعاع ليس لمطابقتهم سنن الكون وإنما لانحسار الصالحين عن مطابقتها، فالشر من أنزل آدم لكن لإحساسه بذنبه أعطاه الله كلمات.. نقص عزمه، أي تفكيره وفهمه لعلم عنده ولأهميته، لكن نقص الفهم عليه عقاب والانتباه هو الخط الصواب.. أما أن نرجو الصلاح عصبية أو بدعم لتافه كي نرفع شانه وكأنه بفساده يمثل أمة نكاية بغيره، فهذا ليس لذي حجر.

فهم الرسالات

لم نفهم رسالة الإسلام، وهي التفكير ومعالجة المعطيات لبناء الأمم. والصبر صمود على أداء القيمة والمهمة وليس تحمل الظلم والألم، وإنما المطاولة من أجل مقاومة الظلم والظالمين حتى يعودوا إلى الرشاد، فهي تدبير وعمل وليس استسلاما وكسلا. فالله لم يخلق الكون عبثا ولم يجعلنا في الأرض إلا لاختبار منظومتنا العقلية. ولا يكافأ مسلم جاهل بدينه ومعانيه، مختل التفكير والسلوك، ولا مسيحي لأنه يظن أن الخلاص حاصل له بقبول المسيح، ولا ليهودي يظن أنه من شعب مختار، هذا العبث في التفكير يفقد الحياة معناها ويخلق التشظي بين البشر وهو ما نراه اليوم من فساد كبير، بينما لو ترك كل إنسان أخاه الإنسان إلى رأيه وما يحمل من معتقد، مكتفيا بإبلاغه دون التترس ضده، واتجه إلى المشتركات التي تنفع الناس عند الاثنين، لما وُجد هؤلاء الرعاع ولا المرضى بالنرجسية ولا المخبولون في إدارة العالم ودفعه نحو الفساد حتما عندما تختل المعايير وتنتشر الكراهية نتيجة الاستقطاب، فتنكرها الفطرة الآدمية فتذهب إلى الحيرة، وعندما لا تجد جوابا أو ليس لها قدرة على الجواب تذهب إلى الإلحاد والكفر بكل شيء قبل أن تتصالح مع آدميتها، لكنها لا تجد الطريق في المتاهات التي ولدتها الاستقطاب والمتاريس التي سدت الطرق.

طريق الضباب:

لو جئنا إلى المتدينين وهم يضعون أنفسهم وكلاء الله في الأرض وهذا ما لم يُمنح لنبي أو رسول، أو هم يقدمون قدسية مصطنعة لإنسان عالم أو فقيه اجتهد وربما جافاه الاجتهاد عن أصول الفكر السديد، ويقيمون بحجته حجة على الله وكتابه، فهذا أمر عجيب.. فآدم ميّزه الله بالمنظومة العقلية والكرامة الإنسانية والسعة في الاختيار والإبداع، كذلك علمت الملائكة وأعلمها الله أنها لم تعلم ميزات هذا المخلوق، فما السر في هذا النفور؟

إنه طريق الضباب والتعنت والتمسك بما عرفت وأنه الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رغم أنه اجتهاد يقابله اجتهاد.. هو نوع من إيقاف المنظومة العقلية وتعطيلها، وبهذا لا تجد تفاهما منفتحا من الجميع على الجميع.

المشكلة عامة ولا تقتصر على دين أو متدين أو ملحد أو علماني، فالكل يتترس مكتفيا بما عنده، ولا يرى إلا أنه صواب ويحاكم الآخرين، ولو عاش -ولا أقول تعايش- هؤلاء الناس لكانت حياة سوية، أن من أمامك أخ لك وما يهمك منه أن يكون إيجابيا في المجتمع، وإن احتجتم لبعضكم تكونون حاضرين

طريق النور:

إن الله خلق الإنسان لاختبار منظومته العقلية، هو في الأرض لعمارتها، والعمارة لا تأتي بالفوضى وعدم الاستقرار، وانشغال الناس بمعتقدات بعضهم تجاوز على خالق الكون، فهو وحده من يحكم بين الناس فيما هم فيه الآن مختلفون، فلا بد أن ينظر إلى قابليات أي إنسان في تحقيق الهدف وهو التعارف والبناء، وأن الكرامة عند الله التقوى، وباب الوصول إلى التقوى هو صفاء الفؤاد من الأحاسيس السلبية ونقاء المنظومة العقلية من الأفكار السلبية.

السبت، 29 نوفمبر 2025

215 - بيـــــن وهــــج الضيــــاء وغربــــــــــة العتمـــــة

 رابط عربي 21

وهج


الظلام والنور:

ألم تر أن الظلام لا يُذكر إلا والنور صنوه مُخالِفُهُ ماحِقُهُ، وكلما اتسع الظلام بان اختراقه من الوميض أو تلألؤ شعلة من نار مهما بعدت لتكون هداية إلى السبيل، لكن النار لا بد من وجود من يشعلها ولا بد من تحول المشاعل إلى رماد، فإن أتى الصبح بعد ليل بلا قمر استيقظت النفوس الساهرة منها والنائمة. أما الساهرة فمعايش نهضة الشمس يحس بأطياف الشعاع وهو ينتشر، والنائم يحتاج إلى وقت ليدرك أنه في الصباح بيد أنه لم يك يحس بمعاني الظلمة عندما يقترب الخوف مع معانقة غريزة البقاء خيال البشر وأسر تفكيره، كل هذا لا يصف الظلام ولا النور إلا من معاناة من لم يحس بمعاناته من ظرفه.

أما معنى الظلام فهو الفضاء كله لكنه يتمزق عندما تجهد بدورانها الكواكب لتواجه الشمس فتشرق، بيد أن الشمس ليست آمنة إلا في كوكب كالأرض تحيطه دروع تصفي وتنقي أشعة الشمس التي تستنير بها والتي لولا دروع الأرض لأبادت من على الأرض، لذا كانت الأرض الأم للبشرية ليست كتراب فحسب، بل كطبقات الهواء التي تغلف الأرض إلى يوم الوعيد،وفي المقابل حين تلامسنا الشمس بنورها ترسم الظلال الممتدة، كأن الضوء لا يكتمل إلا بصحبة العتمة. الطفل يخاف الغرفة المظلمة، والعجوز يغلق عينيه أمام توهج النهار، كلاهما يواجه حقيقة أعمق: النور والظلام ليسا خارجنا فقط، بل فينا ومعنا.

الظلام والنور: جدلية الوجود والعدم بين الرمز والحقيقة

النور هنا ليس فقط ما يُرى بالعين، بل ما يُدرك: لحظة الوعي التي تُبدد الجهل، فكرة تولد وسط الفوضى، أو حب يسطع في قلبٍ مظلم باليأس، أما الظلام فهو الشر والجهل كناية عما لا يدرك


ومع توالي المدنيات، أصبح الظلام والنور رمزين متلازمين للخير والشر، الجهل والمعرفة، الغياب والحضور، بل وحتى الحياة والموت. لكن، هل هما خصمان يتصارعان في كينونة الكون والإنسان؟ أم أنهما وجهان متكاملان لحقيقة واحدة؟ النور دائما مرادفا للوعي، والحقيقة، والإلهام كما الظلام يصف الجهل في الانطباع العام، هكذا تعارف الناس واصطلحوا على فهمه، وشبهوا الشر بالسواد ولا يختلف في تشبيه الشر أفريقي أسود عن ناصع البياض؛ في الفلسفة اليونانية، اعتبر أفلاطون النور صورة الخير الأسمى في "محاورة الكهف"، حيث يخرج السجين من الظلام إلى ضوء الشمس، فيكتشف الحقيقة بعد الوهم. والنور صفة إلهية: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"؛ أي أنه مبدأ الإشراق والمعرفة والوجود. النور هنا ليس فقط ما يُرى بالعين، بل ما يُدرك: لحظة الوعي التي تُبدد الجهل، فكرة تولد وسط الفوضى، أو حب يسطع في قلبٍ مظلم باليأس، أما الظلام فهو الشر والجهل كناية عما لا يدرك، هو خيالات كهف أفلاطون، هو أنت في الأمس نسبة إلى معرفتك ووعيك اليوم، لذا كان وما زال الانتقال من الجهل بالله إلى الإيمان تغييرا ثوريا يصعب تفسيره إلا بشروق يوم أو مرحلة جديدة من الحياة.

الظلام هو السائد لكن النور القليل يجعل تعريفا للواقع هذا معروف وهذا ليس معروفا، فمن بقي على انطباعات أهل كهف أفلاطون فهو سيبقى في الظلام رغم وجود النور الخلفي الذي لا يولد إلا الخيالات، المؤامرة التي هي قدر مقدور، الأنا الطاغية، الركض وراء الأوهام وتسخيف العلم والعلماء، كذلك هم سجناء خيالات كهف أفلاطون.

إن لم تبحث فأنت ستكون بعلمك كالكرة الأرضية من الظلام مع شمعة في صحراء تسمع عواء الذئاب وينسكب ماؤك، فلا أنت تنام ولا تشرب ولا تستطيع السير بعيدا، ذلك مثل من وصل تمام العلم في ظنه وراح يحكم على العلم والعلماء من ظلام جهله، لكن الحقيقة أن الإنسان مهما بلغ من علم ومعرفة فهو ما زال لم يصل الغاية، وإنما عليه أن يبحث ليفهم وليكون خروجه من الحياة أفضل حينما يترك شموعا يستنير بها من بعده فيكمل صناعة الحياة.

جدلية التوازن: المعرفة شموع لم تشعل فتائلها

الثنائية بين النور والظلام سباق مساحات يتقدم فيها نور المعرفة فإن وجد من يتفكر وينمي ويستنبط بعد قراءة واقعه انحسر الظلام عن مساحة أوسع، فإن لم يجد فإن المعرفة شموع مكدسة لا تكون فاعلة إلا إن وجدت من يشعل الفتيل


الثنائية بين النور والظلام سباق مساحات يتقدم فيها نور المعرفة فإن وجد من يتفكر وينمي ويستنبط بعد قراءة واقعه انحسر الظلام عن مساحة أوسع، فإن لم يجد فإن المعرفة شموع مكدسة لا تكون فاعلة إلا إن وجدت من يشعل الفتيل، لذا فالمعرفة لا تطرد الجهل بل قد يستعين الجهل بها ما لم يك تفكرا يشعل فتائل المعرفة لتكون نورا، أو تكون كمن اشترى سلاحا يقتله. ولعلنا نميز بين الظلام وظل الضوء، عندما يأتي المفكر بالجديد فتتصوره ظلاما، فلا ظل إلا نابع من مصدر ضوء، وليس مدرك النور حين يدركه مثل من جرّب الظلام.

الظلام هو إطار للنور، محيط به؛ من أجل هذا قال الإسلام إننا لا نكره الإنسان بل نكره فعله أو انحرافه عن الرأي السديد ولكل علاجه وظرفه؛ فإن تاب أتى كما ولدته أمه "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ" (التوبة: 6). من أجل هذا كان سيف الله المسلول وكان عمر أمير المؤمنين، وتحول كفار الأمس إلى دعاة هداة للعالمين، وإلا فإن قتلت مخالفك فلا دعوة ولا عزوة ولا حياة؛ الحكمة تكمن في التوازن بين من عاش في النور الدائم وقد يعمى عن التفاصيل، ومن غرق في الظلام فقد يغطي عينيه منبهرا ويعود إلى الكهف ما لم يشهد نسائم الصبح وخيوط الشمس تبشر بيوم جديد.

خاتمة:

إن الظلام واسع، والشر قادر ومتمكن لأنه الأكبر دوما، فتفعيل البصيرة غير البصر، وكم من أعمى يرى ما لا يراه ذو العينين. نحن في الأرض لامتحان منظومتنا العقلية، فعلى قدر فاعليتها يتسع النور من حول الناظر، فإن أغمض عينيه أو لم يشعل شموع المعرفة بقيَ قانعا بظلمة انطباعاته أو ما تلقى، ويظن أنه يعيش في النور، فلا بد من إشعال شموع المعرفة ولا يكتفي بتكديسها أو القناعة بها انطباعا وظنا وتجميد الفكر؛ ذلك مثله كالحمار يحمل أنواعَ الغذاء وهو جائع.

الجمعة، 21 نوفمبر 2025

214 - الحب والاحترام: من الذات إلى الدولة

رابط عربي 21


لمسة

الدارج حين تُذكر كلمة "حب" أن يتبادر إلى الذهن ذلك الانجذاب بين الرجل والمرأة، فيُختزل المعنى في غريزة النوع، غير أن هذا الفهم ضيق، فالحب في حقيقته كلمة جامعة لا تخصيص فيها، إنه شعور يتجاوز الجسد إلى الوجدان، ويتسع ليشمل الناس جميعا، أصدقاء كانوا أم رفقاء طريق، إنه تكامل وجداني وعقلي، يدفع الإنسان للتعاون مع الآخرين في بناء أو إصلاح أو إبداع، بينما الانجذاب بين الجنسين -إن اندمج بالحياة ومشاركاتها- فهو عشق أو مودة، أما المحبة فهي القبول النفسي والرضا العميق، والتسامح الذي يجعل الإنسان يرى في الآخر ما يتجاوز المحددات.

الحب والمحبة في القرآن

وردت كلمة حب في القرآن تسع مرات، وكلها تعبّر عن معانٍ مثلا: طاعة، ورهبة، وحرص، واحترام له. قال تعالى: "وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة: 195)، وقال: "وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (البقرة: 222)، وقال أيضا: "فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (آل عمران: 76).

الحب في المفهوم القرآني ليس عاطفة سطحية، بل منظومة قيمية تجمع بين السلوك والإيمان


وهنا يتضح أن الحب في المفهوم القرآني ليس عاطفة سطحية، بل منظومة قيمية تجمع بين السلوك والإيمان، وفي المقابل، يصف القرآن أيضا شغف امرأة العزيز بيوسف عليه السلام: "قَدْ شَغَفَهَا حُبّا" (يوسف: 30)، وهو حب تغلب فيه الغريزة وتجند المنظومة العقلية للتخطيط لكن تفشلها بالاندفاع.

أما المحبة، فهي حالة عقلية لا تحتاج إلى تأسيس، وتستقر في النفس بثبات ورضا، قال تعالى: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي" (طه: 39). فالمحبة هنا تتصل بالمنظومة العقلية، لا بالهوى. وقد أثرت هذه المحبة حتى في قلب فرعون، لكنها احتاجت إلى منطقٍ وسبب، كما قالت زوجه: "قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ. لَا تَقْتُلُوهُ".. (الآية). فكما نرى، هي تحتاج إلى رابط لتتجاوز العواطف السلبية.

الحب وتنمية العلاقات

فالاحترام أساس بناء ثابت أو غرسة نبات والحب هو القمة النامية للاحترام، فلا حب بلا احترام، وإن وُجد الاحترام بلا حب، فهو نبتة بلا قمة نامية؛ تبقى حية لكنها لا تزدهر، ومع ذلك، يبقى الاحترام قادرا على صنع ديمومة للعلاقات حتى حين يخفت وهج الحب.

أما الخوف من المآل أو ردة الفعل، فليس احتراما، بل بذرة كراهية. واحترام القانون مثلا ينتج إبداعا وفنا في إدارة الأعمال وتطويرها، بينما الخوف منه لا ينتج إلا رتابة وتقليدية، كذلك حب الحياة يثمر اكتشافات واختراعات، أما مجرد العيش بلا رؤية أو حب حقيقي للحياة، فهو مرور باهت أشبه بسحابة بيضاء لا تحمل مطرا تحجب الشمس ثم تنقشع.

احترام الذات

احترام الذات لا يعني التكبر أو الانعزال أو سوء الظن بالناس، إنه وعي بقدرك من غير تضخيم، وثقة دون غرور، أما من يحاول إثبات ذاته بالمخالفة أو التردد، فإنه يهدمها من حيث لا يشعر. فالتردد، وفقدان الثقة، توأمان في هدم الإنسان، فكم من فرص ضاعت بسبب الخوف من القرار! والتردد ليس تفكيرا، بل إرجاء للفعل، أما القرار السليم، فيُدرس ويُهَيَّأ له، ثم يُنفذ بثقة.

والكبار في التفكير لا يحتاجون إلى صراخ لإثبات الوجود؛ أسلوبهم الحوار، والنقاش الهادئ، والتبادل الفكري الحر، غير أن بعض الناس، بدعوى الكرامة أو الكبرياء، ينتظرون المبادرة من الطرف الآخر، فيضيع الوقت والعمر، وتضيع معه فرص الإصلاح أو الوصال.

الحب والاحترام ليسا من الكماليات المعبرة عن الرفاهية، وليس تعبيرا مخصصا للغرائز رغم أنها أساسا نوع من حلقات الحياة بمفهوم التفاهة بل أساس التوازن في الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية


ولعلنا نلخص هذا بكلمات: "غالبا تضيع الفرص بالتردد، ونفقد أجمل ما في الوجود ونحن نحاول إثبات الوجود"، فلا بد ونحن نسير في حياتنا أن نضع أولويات ونوازن بينها والا سنفقد حتما ما نظن أننا سنحصل عليه بنسيان الأولويات.

السلبية في الدول

كما في الأفراد، كذلك في الدول: التردد أخطر الأمراض، فدولة يتردد قادتها تصبح رهينة خيارات الآخرين في السلم أو الحرب، وإذا خشي صاحب القرار من طرح رأيه لأنه يخاف السخرية أو الرفض، فذلك انتحار سياسي بطيء، والأسوأ حين لا يكون له رأي أصلا لغياب التفكير الاستراتيجي والاستشراف في التخطيط أو لغياب الاهتمام سيان ضعف الكفاءة.

في كثير من الدول، تتحول المناصب إلى مكافآت سياسية، لا إلى مواقع مسؤولية علمية أو مهنية، وحين تُدار الدولة بالعلاقات لا بالكفاءات، يصبح القرار رهين المزاج لا الرؤية، عندها، لا تعني الأزمات نقص الموارد، بل نقص التفكير والتخطيط، وتتحول البيانات الرسمية الطويلة إلى محاولات تبرير وتوزيع للّوم على الآخرين.

إن السلبية ليست موقفا عارضا، بل منهج تفكير يبدأ من الفرد الذي يخشى القرار، وينتهي بالدولة التي تخاف المبادرة، ومثلما أن الحب بلا احترام يموت، فإن القرار بلا شجاعة يعد موؤودا؛ وما بين الاثنين، يمسي عالم فوضى، بلا حب، بلا حركة، بلا نهضة.

خلاصة القول:

إن الحب والاحترام ليسا من الكماليات المعبرة عن الرفاهية، وليس تعبيرا مخصصا للغرائز رغم أنها أساسا نوع من حلقات الحياة بمفهوم التفاهة بل أساس التوازن في الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية، فحيثما نبت الحب، نما الإبداع، وحيثما مات الاحترام، نمت السلبية، وما بينهما يقرر مصير الإنسان والدولة معا.

السبت، 15 نوفمبر 2025

213 - الكبار يعشقون ايضا

 رابط عربي 21


سردية النفس والجسد:

في ثنائية النفس والجسد قصة غربة وامتلاك وأُلفة ثم إدراك للفراق، هذه علاقة نفس الإنسان مع جسده، والنفس هي الإنسان ذاته تلتحم بالجسد في رحم أمه أو في مختبر، فهو التحام غريبين، ويتحرك الجنين بعشوائية مثل من يتعلم القيادة للسيارة، أو دراجة هوائية، ثم يضبط الحركة لكن بينه وبين الجسد علاقة مصلحة ووجود، ويستمر بالأنا حين يكبر وكأنه آدم لوحده أو حواء، فان أسميتها حواء، ستقول لك عندما تحتاج شيئا حواء تريد كذا، ولا تقول أنا أريد كذا، بل تلك التي تسميها حواء تحتاج أكلا أو شرابا، ثم تحس أن الجسد هذا ملكها، فتعامله بامتلاك وتحميه، ومع تقدم العمر يأتلف الإنسان مع جسده ثم يقبل أنه يوما سيفارقه..

العلاقة بين الجسد والنفس علاقة خالد بفاني، وعلاقة شاب طموح بجسد لا يتوازن في فهم النفس، ثم يتوازن ثم يهرم وتبقى النفس شابة طرية، فمشاعر الكبار حية شابة كالنفس البشرية لا يمر عليها الزمن، بيد أنها أكثر حساسية وتنمو بسرعة وتحبط بسرعة عندما تكتشف أن الجسد لم يعد قادرا على أمانيها؛ فإما أن تستجيب له وهو غالبا ما يحصل، أو تتمرد فتنتقد من بيئة تشكلت انطباعاتها على قاعدة القرود الخمسة المحبطة. هذه هي ببساطة سردية النفس والجسد.

ألحان المشاعر مع العمر:

عند الطفولة المشاعر سطحية في ظاهرها عميقة في أهدافها شفافة تتبع الملاطفة ظاهرا، لكنها مرتبطة بالأنا جذرا، تحتال على التملك، فلا يلبث أن تتحول عنده هذه المشاعر ومسبباتها إلى تقدير وامتنان، فهي مشاعر تجري عقلنتها بإدراك ومعرفة أنواع العلاقات والأعراف الاجتماعية والدينية والأخلاقية.

وتنقاد المشاعر عند الشباب بالمشاعر الفؤادية والأحلام التي غالبا نتائجها في المسار والتفكير إيجابية الأهداف متناسية العثرات، وهنا تتجاوب النفس الشابة مع الأهواء التي تولدها الغرائز بل تخطط لها وتراقب وتتابع وتختار طرق التنفيذ.



هذه المشاعر التي تعني أن طريق النجاح ممهد ولم تدرس أن هنالك تخطيطا مطلوب، وإعداد ودراسة، ستنتهي إلى الركون لإحباط ندر ما يتسلق جرفه أحد، وقد تأتي مصادفات الحياة -كما يسمونها- وأرزاقهم المرسومة برافعة لهذا الإنسان؛ فإما وعي وتصويب أو فشل في مرحلة لاحقة. والنجاح غالبا لا يظهر إلا إن كان معبرا عن طموح، فهنالك من هو ذكي ومتمكن لكن لا يظهر إلى الواجهة إما لاسباب تتعلق بالبيئة وإما أنه لا يريد أكثر من العيش بسلام وفق تعبيره، فليس سهلا أن تكون متميزا في مجتمع عدمي تقليدي يثبط الطاقات أو يرفض وينكر الجديد، بل هنالك حاسد وعدمي ليس كفئا ولا يريد أن يظهر أحد كفئا، وهو متنفذ قادر على تحييد الآخرين. وعادة ما لا يهبط النابغة أو العالم أو المبدع لأساليب هؤلاء السلوكية، فيبدو النوابغ أضعف الناس قدرة في الدفاع عن أنفسهم، وهنا تظهر قوة النفس وما كونت من شخصية فعّلتها بالصمود.

وعموما فهذه المسارات تقدها وغرائز حب السيادة والتملك وتعينها المنظومة العقلية التي تجند لأهدافها عند السلوك الحسن والسلوك السيئ، وتبقى الأخلاق كأي قيم تعرف وقد لا يلتزمها الكثير ممن يعرفونها في سلوكهم، وهو يخوضون منحدرات إثبات الوجود النفسي والتي تمثل نوعا من صراع الإرادات أحيانا.



وأما العواطف المتعلقة بجنس الإنسان فغالبا تقودها غريزة النوع وتهذبها الأعراف، وهنا تذرف الدموع في واقعنا اليوم؛ عندما ارتخت الأعراف في مجتمعات تعرضت إلى أزمات وصراعات وحروب وتشتت في نسيج المجتمع، وكل هذا معبر عن عجز الروابط كمنظومة بفاعلية متدنية.

عندما يكبر الإنسان ليتجاوز الستين تستيقظ الروافد الجافة وتبحث عن الرطوبة والماء، وهنا يبدأ صراع النفس الفتيّة التي غالبا إن لم تُقمع فهي شابة نشطة في العشرين؛ مع الجسد الذي تناوله الهرم وأضناه تعب السنين، لكن النفس تبحث عن خضرتها وتحاول نجدتها


في هذه المرحلة والتي هي ما بين العشرين والستين يتعرض الإنسان إلى أنواع من الشد عدا شد الاضطراب المجتمعي ويتشعب الامتداد ويتفرع، فهو يتعرض إلى شد الاختيار وطلب الاستقرار العاطفي والاجتماعي ليستطيع أن يتوجه لسد حاجاته الأخرى وإشباع غرائزه والاستقرار النفسي في العلاقات العامة. كثيرا ما يكون هذا منقوصا لغياب التدريب والتعليم لهذه المواضيع، فيبدو أن الشاب قد تصرف بقرار استراتيجي بشكل غير مدروس وغير مخطط له وآني البعد، فهو عامل الاستراتيجية بالتكتيك واتخذ عامل النزوة وغريزة النوع قاعدة قراره وهذه تنتهي تأثيراتها خلال أيام؛ من هنا، نشاهد كم حالات الطلاق في المجتمعات التي فارقها العرف المجتمعي والاستقرار، وغياب فاعلية الرأي الرشيد أو منظومة التأهيل والإرشاد، فبناء الأسر من أخطر أنواع الأبنية المجتمعية.

كما يتعرض لشد الأطفال وحاجاتهم حيث مع نموهم تكبر مشاكلهم، وهذا الشد يمثل حالة نشاط عاطفي أكثر من الطاقة لموازنته مع صعوبة الامتداد في الحياة، فيتولد عند الأكثرية خوف من المستقبل وعلى أبنائهم، وهو خوف يولده واقع سيئ في بيئة مضطربة، وهنا تنعكس الأمور إلى تجفيف الروافد اللاشعوري.



ويتعرض لشد من الأعلى من الوالدين وتجاربهما واستمرار حرصهما عليه أو عليها، وكل يبدي رأيا من تجاربه وأحيانا لا تتلاءم التجارب مع الواقع الجديد، وكثيرا ما تُرفض كلمات التجربة من الشباب ربما لفرق الإدراك، والعيش في التجربة ليس كمن مر بها، لكنه شد يحتاج حوارا، وغالبا يفضي الحوار لأمر حسن.

وعندما يكبر الإنسان ليتجاوز الستين تستيقظ الروافد الجافة وتبحث عن الرطوبة والماء، وهنا يبدأ صراع النفس الفتيّة التي غالبا إن لم تُقمع فهي شابة نشطة في العشرين؛ مع الجسد الذي تناوله الهرم وأضناه تعب السنين، لكن النفس تبحث عن خضرتها وتحاول نجدتها. وهنا يصبح الشد عكسيا من الأسرة ومن المجتمع، وتقبل النفس أن الإنسان في هذا العمر استلم طريق القبر أو لا بد أن يتعفف عن غرائزه والميول العاطفية وتسليته فهي تثلم من هيبته، كذلك هم قمعوا ودرّسوا القمع للمجتمع، وقد تمزق أسرته أو بعبارة أصوب تكشف تمزقها.

ما المطلوب؟

المطلوب جليّ، أن تعقيدات الحياة إن لم يتجاوب معها الإنسان بعقلانية فلا بد من مراكز تأهيل تعنى بهذه الانتقالات الحادة العمرية لتجعلها انتقالا تدريجيا واعيا من خلال المؤسسات والإعلام والزيارات الميدانية، بتقسيم المدن كما تقسم البلدية أقساما وتكون هنالك تدريبات، وخلق نشاطات وتشجيع على إزالة العقبات ومواجهة المشاكل كمجتمع واعتبارها نوعا من العمل في سبيل الله، لكن بجدية وقواعد بيانات.. والحديث ذو سعة.

السبت، 8 نوفمبر 2025

212 -القوالب الجاهزة لا تصنــــع امة

رابط عربي 21 


"لم يعد الفاسد خجِلا، ولم يعد الناس يأنفون أن يأخذوا من مال كانوا يسمونه حراما"- ويكيبيديا

النظم لا تستورد:

من العجب أن اختيار الحاكم لم نعرفه تراثيا من الديمقراطية الغربية أو من فلسفاتها، بل الديمقراطية لم تك عند أرسطو وأفلاطون مفضلة وفي أثينا محددة مغلفة، لكننا عرفناها بوثيقة تعادل دستورا سُميت وثيقة المدينة، وعرفناها باختيار الحاكم بأساليب متعددة، حتى الطفل يسأل مما يعني أن الآليات مفتوحة، وعرفناها عندما يقاطع أعرابي أمير المؤمنين ويقول لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، وعرفناها عندما يقول أمير المؤمنين "والله إني لأجهلكم" و"أخطأ عمر وأصابت امرأة"، وعرفنا معنى أن يكون المرء ولي الناس في أمورهم عندما يكنس أمير المؤمنين علي بيت المال.

هذا حكم الشعب بان يختار حاكمه ويحاسبه ويقيله إن فشل، أمين حريص كذلك هي صفة كل من في الحكم، لكن هذا الحكم يحتاج رسوخا، وأكثر من غريزة التدين ليستمر، يحتاج زمن الطابعات والإنترنت والتواصل الاجتماعي، وإلى محاضرات والسعي لإيجاد النموذج الذي يبنى بشكل صحيح، وليس بتصور الناس نسخة واحدة أو رأي واحد أو ملابس واحدة، بل السعي لأن لا يكون هنالك أي أذى أو خدش للأهلية. الإنسان حر بمعنى أنه ليس عبدا لغير الله، لكن هنالك مجتمع يتوجب حمايته، من هنا كانت وستكون القوانين التي يتفق عليها الشعب لحمايته، فإن تحمل فكرا مخالفا فلا يعني أن تسفّه أفكار الناس، أو أن تحتقر أي إنسان كرمه الله، فتلك إهانة للبشرية. الكل يتوحد للعمل والإنجاز، والأفكار يتبناها الأشخاص ومنظمات حزبية أو مجتمع مدني تشجع منها ما تعمل لصالح المجتمع وتوقف منها ما يضر المجتمع باقتراع المجتمع.

تأثير المظهر:

استيراد الديمقراطية بلا تراثها فهي ليست تجربة ديمقراطية، لأن التجربة وسيلة العلم في قياس والحكم على صحة ودقة وتحسين ما يطرح


المجتمع في الغرب وبمعاييره بُني عبر مئات السنين في رحلة ولدت مع ما سمي بعصر النهضة وانطلاق الفنون والصناعات، إلى أن تكاتفت القوانين وبُنيت المنظمات، فالنظام الرأسمالي نظام قاس لا أخلاقي لكنه يراعي بيئته من أجل الاستقرار والهدوء، فلا مدنية في اضطرابات، والديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وحتى حقوق الحيوان وحماية الطفل والمرأة والعنف الأسري، هي كلها آليات وقوانين تحافظ على بيئة راس المال، أما استيراد الديمقراطية بلا تراثها فهي ليست تجربة ديمقراطية، لأن التجربة وسيلة العلم في قياس والحكم على صحة ودقة وتحسين ما يطرح. فالديمقراطية في أمريكا تجربة، والديمقراطية في بريطانيا نظرية ثابتة، والديمقراطية في أوروبا ما زالت تتطور، أما الديمقراطية في الشرق كله فهي وإعطاء الاستبداد والظلم شرعية وتغليفه بأعراف سمجة، فالقوانين عشوائية لم تُبن على حقائق ومعطيات علمية، وتكون سلاحا بيد الحاكم والظالم وليس لتعطي حقوقا مغبونة، فهي شكلا وليست فعلا، نعم الناس بإمكانهم هجاء بوتين لكن بوتين بإمكانه سجن أي شخص بلا تردد وبالقانون.

المشكلة في الشخصية:

الشخصية هي البنية العقلية وما تؤمن به وكيف تفكر، والنفسية هي المشاعر ومدى سلطة الغريزة على القرار وعمق الإيمان بالقيم وتجذرها في العقلية ينعكس على إدارة الغرائز، فعندما تحكم الغرائز سلوك الإنسان حتى لو كانت معرفته الدينية عالية فإنها توصله إلى الإسلام مثلا وليس الإيمان، ويملك بيده القانون فلا يبقى من يحاسبه إلا الله. لكن في الدنيا القانون يردع عندما تسول الغرائز للنفوس فتسول لذاتها الخطأ ثم الجريمة ثم الطغيان والفساد.

وتأتي الفتاوى التي تركن إليها النفوس في العفو لتبرر، فإن هؤلاء القوم مثل غيرهم من الفاسدين عندما يسيطرون ويتمكنون من السلطة والقانون، بل هنالك من يعلم أن مصيره بالغ السوء فيصل مرحلة إبليس عندما تحول شيطانا، وبعضهم لا يعرف مما يزعم إلا ظنا فتقاذفه الغرائز ليكون مجرما صريح الإجرام. وهذه أمور ليست خافية في علم الاجتماع، ولكن وصفنا لها حلها من العموم إلى الخصوص؛ في عصرنا الحالي يصبح بناء النظم أكثر إلحاحا ولا نستورد ديمقراطية جاهزة، بل نستلهم تراثنا لنبني آليات تحاسب الغرائز قبل الطغيان.. الشعب يقترع، يحاسب، يقيل، والقانون سلاح للحق لا للظلم، هكذا نرسخ الحرية دون عبودية، والوحدة دون إقصاء، لمجتمع يزدهر بالإنجاز لا بالفساد.

الازدواج

لقد صُدرت الديمقراطية مع الفساد في بيئتنا، ولم تك مخالفة النظم المرورية إلا عن جهل، ولم تك السرقة والاختلاس إلا عار تتناقله الأجيال، لكن أتى أناس تحللوا من قيود قوانين تردعهم فانطلقوا في عبث فيمرضون ثم يتركون المرض حيث كان، ليتوجوه بفساد بات للأسف مقبولا ومتعارفا عليه، ولم يعد الفاسد خجِلا، ولم يعد الناس يأنفون أن يأخذوا من مال كانوا يسمونه حراما، أو أن هنالك شيئا يهم أكثر من المزايدات وكلام بلا آليات، ولم يعد مهمّا ما يعد النائب فهو يدرك كما الناس يدركون أن لا تحقيق للوعود ولا الادعاءات وأنه لن يفيد إلا نفسه وربما حتى يتخلى عمن أوصله ليكون دونكيشوت جديد.

ليس من ثقافتنا أن يرشح الإنسان نفسه لتصدر عمل بل يرشحه آخرون، فهذا كان يعتبر "عيبا" عرفا. الغرب عندما يرشح شخصا فهنالك حزب يتبنى برنامجه ويرشحه لتنفيذ الوعود التي ينتخب من أجلها وليس من أجله، أما عندنا فلا رؤية لحزب ولا برنامج لأشخاص، لذا ترى أن القناعة وصلت إلى أن تعرض الصور فارغة بلا أي شيء، في نقلة صريحة أن لا وعود مكتوبة ولا شيء سيتغير.

كيف يتغير الناس بهذه الصيغة وتذهب قواعد مدنية باتت من التقاليد، هذا لأنهم لا يحملون فكرا حقا وأبدلوا القراءة بالاكتفاء بفساد الجهل، وتمكن الجهلاء والمغامرون وأصبح العظماء غرباء بين أهلهم، وتبقى مطاولة الناس بالتزامهم قدر عيشهم، وفي الصحراء قد يصبح ماء صبار البرميل بروعة الينبوع الأزرق (Blue Spring) في نيوزيلندا.


عربي،يقظة،فكر،محمد،صالح،البدراني

السبت، 1 نوفمبر 2025

211: هـــــــــــــــل الاصــــلاح مستحيل

رابط عربي 21 


مشكلة الإصلاح:

إن مسألة الإصلاح تمثل تحديا معقدا يتطلب فهما عميقا لطبيعة المجتمعات والعقول البشرية؛ الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالكلمات الرنانة أو الشعارات المثالية، ولا حتى بمجرد الرجوع إلى النصوص الدينية أو الفلسفية، مهما كانت قدسيتها أو أهميتها. الإصلاح يبدأ من بناء نموذج حي يعكس القيم والمبادئ التي يسعى المصلح إلى نشرها. إن العقل البشري، في كثير من الأحيان، لا يقتنع بالدليل النظري وحده، بل يتأثر بالصورة الملموسة والنموذج العملي الذي يراه أمامه. فالإنسان، بطبعه، كائن انطباعي، يتأثر بما يشاهد ويعايش أكثر مما يقرأ أو يسمع.

الانطباعات تشبه خريطة صماء، يمكن أن تُكتب عليها أي فكرة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة. بمجرد أن تترسخ هذه الانطباعات، تصبح بمثابة طباعة دائمة في العقل، لا يمحوها إلا انطباع أقوى أو نموذج حي يعيد تشكيل الرؤية. لهذا السبب، نجد أن الكثيرين ممن ينبهرون بالغرب، على سبيل المثال، لا يسألون عن أصل الأفكار أو الفلسفات التي قامت عليها الحضارة الغربية، بل يكتفون بالمظهر الخارجي، بالسلوك الذي يرونه، وبالنتائج الملموسة التي تظهر أمامهم. هذا الانبهار ليس بالضرورة نتيجة تحليل عقلي عميق، بل هو انطباع سطحي يتشكل من خلال المشاهدة والتجربة.

الإصلاح، إذن، لا يمكن أن يتحقق بمجرد خطابات المصلحين أو تلاوة النصوص المقدسة، بل يتطلب وجود نخبة واعية، قادرة على فهم الواقع بعمق، ومؤهلة لبناء نماذج عملية تترجم الأفكار إلى واقع ملموس


إن الإصلاح، إذن، لا يمكن أن يتحقق بمجرد خطابات المصلحين أو تلاوة النصوص المقدسة، بل يتطلب وجود نخبة واعية، قادرة على فهم الواقع بعمق، ومؤهلة لبناء نماذج عملية تترجم الأفكار إلى واقع ملموس. هذه النخبة هي التي تستطيع أن تضع الدليل أمام العقلية الجمعية، فتغير الانطباعات السائدة وتبني رؤية جديدة قائمة على المنطق والعقلانية.

النخبة المثقفة:

لكن، ما هي النخبة المثقفة التي نتحدث عنها؟ في كثير من المجتمعات، يُطلق لقب "المثقف" على أشخاص يمتلكون قدرا من المعلومات العامة، يعرفون شيئا عن كل شيء، لكنهم لا يتعمقون في شيء بعينه، هؤلاء يناقشون القضايا من زاوية معرفتهم السطحية، وقد ينجحون في تشخيص المشكلات بشكل ظاهري، لكنهم نادرا ما يمتلكون القدرة على الغوص في أعماق المشكلة أو تقديم حلول إبداعية؛ المعلومة السطحية قد تقود إلى إدراك جزئي للمشكلة، لكنها لا تكفي لابتكار حلول مستدامة.

هذا النوع من "المثقفين" لا يرتقي إلى مستوى المفكر الحقيقي، وإن أُطلق عليهم هذا اللقب، فهم في أحسن الأحوال متعلمون ومطلعون على ما جاء قبلهم من أفكار ومعارف، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على التجديد أو الإبداع، المشكلة الأكبر تكمن في موقفهم من أنفسهم؛ فهم يعتقدون أنهم بلغوا من العلم مبلغا يجعلهم في غنى عن التعلم، فيتحولون إلى دعاة للجهل بدل أن يكونوا طلابا للمعرفة، ينظرون إلى الأفكار الجديدة بعين الاستخفاف، ويرفضونها دون تفكير عميق أو نقاش جاد؛ بل إنهم قد يلجأون إلى عبارات مثل "لك رأيك ولي رأيي" أو "أحترم رأيك"، وهي عبارات تبدو محترمة ظاهريا، لكنها في الحقيقة تعكس فراغا فكريا وفقدان سبل الإصلاح.

هذه الطريق في التفكير والحوار لا تنتج قيمة حقيقية، بل تظل حبيسة المجالس والنقاشات العابرة التي لا تؤدي إلى موقف أو تغيير، إنها تعكس سطحية في العيش وفي التفكير، حيث يغيب الهدف الأسمى والغاية الكبرى التي يفترض أن يسعى إليها المثقف أو المفكر.

طريق الإصلاح:

بين الفكر والحكم إذا أردنا الحديث عن طريق الإصلاح، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل إصلاح الفكر يسبق إصلاح الحكم، أم أن إصلاح الحكم هو المدخل لإصلاح الفكر؟ في الحقيقة، هذا السؤال لا ينبغي أن يكون مفاضلة بين خيارين، بل هو خيار واحد متكامل؛ إصلاح الفكر وإصلاح الحكم وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن أن يتحقق أحدهما دون الآخر. إن إصلاح الفكر يتطلب نخبة تفكر بطريقة استراتيجية، تمتلك القدرة على تحليل الواقع بعمق، وتبني نماذج عملية تعكس رؤيتها، وفي الوقت نفسه. لا يمكن لهذه النخبة أن تعمل في فراغ، بل تحتاج إلى بيئة حكم تدعم هذا التفكير وتمكّنه من التطبيق.

لبناء نموذج إصلاحي ناجح، يجب أن تبدأ النخبة بفهم عميق للواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، يتطلب ذلك دراسة التحديات والمشكلات بعقلية تحليلية، بعيدا عن الانطباعات السطحية أو الأحكام المسبقة


الأمم الانطباعية، التي تعادي التجديد رغم ندائها به، تحتاج إلى تغيير جذري في طريقة تفكيرها، هذه الأمم تميل إلى رفض الأفكار الجديدة لأنها تخشى التغيير، أو لأنها تعتقد أن التجديد يهدد هويتها، ولكي ينجح هذا التجديد، يجب أن يأتي في صورة نموذج حي؛ انطباع حسن يقنع الناس بجدواه دون أن يثير مقاومتهم. فالمصلح الذي يواجه مقاومة شديدة من المجتمع سيجد نفسه منشغلا بردود الفعل بدلا من التركيز على الإصلاح نفسه.

كيف نبني نموذجا إصلاحيا؟

لبناء نموذج إصلاحي ناجح، يجب أن تبدأ النخبة بفهم عميق للواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، يتطلب ذلك دراسة التحديات والمشكلات بعقلية تحليلية، بعيدا عن الانطباعات السطحية أو الأحكام المسبقة. النخبة المطلوبة ليست تلك التي تمتلك معلومات واسعة فحسب، بل تلك التي تمتلك رؤية استراتيجية ورغبة حقيقية في التغيير، هذه النخبة يجب أن تكون قادرة على ترجمة الأفكار إلى واقع ملموس، من خلال مشاريع ومبادرات تعكس القيم التي تدعو إليها.

على سبيل المثال، إذا كان الهدف هو نشر ثقافة العدالة الاجتماعية، فإن النخبة يجب أن تبني نماذج عملية تُظهر كيف يمكن تحقيق هذه العدالة في الحياة اليومية، سواء من خلال برامج تعليمية، أو مبادرات اقتصادية، أو إصلاحات إدارية، هذه النماذج يجب أن تكون ملموسة ومرئية، بحيث تترك انطباعا إيجابيا في أذهان الناس، وتدفعهم إلى التفكير بجدية في تبني هذه القيم.

الخاتمة

في النهاية، الإصلاح ليس مستحيلا، لكنه يتطلب جهدا جماعيا واعيا، يبدأ من نخبة تفكر بعمق وتعمل بإخلاص لبناء نماذج حية. الأمم الانطباعية تحتاج إلى تغيير طريقة تفكيرها، الذي يصل إلى حيث هو بدليل يقنعه، أما الذي يشكل فكره بالانطباعات فلا يصلحه دليل وكلمة، ويتحول إلى الازدواج عندما يزعم أنه ملتزم بعقيدة أو فكر، وهؤلاء الأكثرية في منظومة تنمية التخلف، فلا بد من تحويل الأفكار إلى واقع.

217- نخبة المعرفة الجاهلة لجهلها

 رابط عربي 21 جدلية  المعرفة  والتعلم: في زمن مر وما زال أثره فاعلا عُرّف المثقف أنه يعلم شيئا من كل شيء، ثم عُرّف النابغ هو الحافظ لأقوال و...

يقظة فكرgoogle-site-verification: google25f7d3ebc2fdac29.html