السبت، 27 مايو 2023

62 - التمكين عند جالوت والمتفرعنين

 



الفراعنة والمتفرعنون، أناس قد تعجبك شعاراتهم وكلامهم، بيد أنهم إن تمكّنوا أفسدوا وأهلكوا الحرث والنسل، أقصوا الجميع ولا يتعاونون في البناء بأكثر من الكلام المبهرج. ولقد رأينا في واقعنا رؤية العين، من أجل هذا سنتحدث عن النفس الفرعونية في المستضعفين الذين إن تمكنوا تفرعنوا وما انفكوا متذمرين يرفعون الشعارات ويحطون الفعل.

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" (البقرة: 246).

* حالة التذمر، بل طلب التغيير بصوت عال وكأنهم في أفضل حالات الجهوزية للصلاح، فما بالهم يبقون تحت واقع لا يريدونه ويرونه نموذج للفساد؟!

* يريدون قيادة معززة للبدء بالتغيير.

* أمتأكدون أنكم مؤمنون بما تقولون وتدعون؟

* الجواب نعم، كيف نرى هذا الظلم والتردي ولا نغيره؟

من الفساد في الأرض عند التمكين إلى الإثارة والكلام والشعارات في مجتمعهم وهم غير متمكنين.. لماذا لا نفعل كذا وكذا، أنت أيها المصلح لماذا لا تقودنا لهذا الأمر وذاك؟ أتفعلون هذا حقا؟ الجواب الجاهز نحن لها؛ بل يشخّصون مواطن الضعف والنقاط الواجبة الإصلاح وما ينبغي أن يكون، ولكن وفق ما يشتهون وليس وفق الممكن والمتاح، ويسبق كلامهم (المفروض)..

وعندما يتطلب منهم المواقف وتصبح الأمور جدية تطلب من الداعين بصوت عالٍ التضحية، يتحجج الكثرة وأتباع المصالح ومن يريدون الزعامة والسلطة، وكانوا يتوقعون أنهم هم من سيختارهم النبي، فهم أصحاب النفوذ والمال والمكانة الاجتماعية. فكيف يختار لهم قائدا فقيرا لا عزوة له أو شخص يطلب منهم الاجتماع عليه؟ هكذا فعل بنو إسرائيل وهكذا نفعل نحن، فالناس سيتوجهون إلى عيوب المصلحين لا يهمهم المنطق ولا البرهان، بل تجدهم أول من يبتعد عن مسيرة الإصلاح، ويبقى مع المصلحين بعض المتأثرين بضرورة الإصلاح بمراحل متعددة من الإيمان، فيتساقطون في الاختبار.

والاختبارات أشار لها القرآن رمزا، والرموز تمثل الحاجة إلى الأشياء والضروريات، وغيرها مما يمكن الصبر عليه والاستغناء عنه، أو الاكتفاء بقدر الحاجة إليه، أُعد الناس وتكونت الأحزاب ونُظر لمن طال نضاله عند المناضلين، ومن ظهرت علامة السجود عليه عند المؤمنين، ومن تحمّل الجوع وما زالت عليه علامات السجن والغربة عند العاملين، لكن هل هؤلاء هم الصالحون؟

1- مع بداية المسيرة يأتي الجاه والمنصب، فمنهم من يغادر مسيرة طالوت إلى الجاه والمنصب حتى لو كان جالوت. وهنا تنتصر غريزة حب السيادة على ما طلب من مواجهة لجالوت.

2- تبدأ خطورة العمل والمواجهة للظروف القاسية وحرارة الواقع وجفاف وشظف العيش، فسيتوجه القسم الآخر إلى البيوت حيث الظل والأكل وبئر الماء. وهنا تسيطر غريزة حب البقاء على قيم تتطلب التضحية والعطاء، واحتمال فقدان النفس والمال في سبيل الإصلاح.

3- سيجد البعض أن المال أمامه سائب بيديه وهو من يقرر أمره، فيستطيب الأمر وتنهض غريزة حب التملك لتقضي على الأمانة لديه، فتحتضر القيم والمبادئ أمام الشهوات والرغبات.

4- ثم تأتي موازنة الحاجات التي أشار لها القرآن بالنهر، نعم أمامك نهر جار تخوض به، لكنه ممنوع عنك أن تفعل به ما تشاء، اللهم إلا إن اضطرت لكي تبقى على قيد الحياة، فلا بأس أن تغرف بيدك غرفة لتستمر.

ثلاثة نماذج لا ينبغي بقاؤهم كمتصدرين للإصلاح؛ لأنهم عناصر تثبيط ومشاريع فساد، والمداراة عليهم هي من معالم الفشل وتشييد صروح الفساد، هكذا قالت آيات سورة البقرة 246-248.

المثالية ليست حالة متوقعة:

النموذج القرآني يقول؛ إن هنالك ثلة ستجتاز كل هذا الامتحان مخلصة مضحية معطاءة، لكن عندما تأتي للمواجهة والشر، ستواجه هذه الثلة المؤمنة المصفاة من بينها من يثبطها. إن الفساد طاغ قاهر متجبر لا يمكن القضاء عليه أو مواجهته، والأفضل أن نسكت عليه، وأن نساومه، اسرق لكن ابنِ قليلا، لا تأكل كل الحقوق، لا تهرب بكل المال، لا تفسد كثيرا في الأرض، وإنما دع متنفسا للناس كيلا ينفجروا من شدة الظلم والفساد، ويبقى آخرون يصرّون على الإصلاح.

إن من سيواجه الفساد والظلم ليس من أصر على المطاولة، ولا من أصابه الإحباط من هول ما يرى، وإنما المنقذ من لا ينظر إليه أصلا؛ فتى صغير مثّله النموذج القرآني لا يحمل سيفا ولا صولجانا، وإنما الشباب الواعي الواثق بنفسه المتسلح بإيمان حقيقي والعلم والأناة، يعلم ما يريد ومتى يتحرك، هكذا كان داوود عليه السلام من نفض مقلاعه لينهي الجدل وتستقر الأمور.

إننا لن نواجه الفراعنة إلا بموسى وهارون، ولن نواجه جالوت إلا بداوود، وليس بالفرعون الذي داخلنا ولا بجالوت الذي يظهر فينا؛ إن تمكنا فحكم الفراعنة وجالوت هو هيمنة الظلم والفساد؛ لا بد أن نطرده من داخلنا وننقي أنفسنا من جالوت وفرعون لكي نسير مسيرة موسى ونحسم ظلم واستبداد جالوت، فلن يواجه فرعون فرعونا إلا ليكون محله، ولن يواجه جالوت جالوتا إلا ليكون باستبداده.

ولا بد أن نتأكد أننا نعبر النهر ولا نشرب، وأن نقول إن الصبر مفتاح الفرج والصبر ليس الاستكانة، وإنما الصمود على الحق وطلب العدل، فليست النفوس تحب المواجهة رغبة، وإنما دوما اضطرار عن خير الناس "وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم"، وفي كل الحالات وكل الأزمان يصرح القرآن بحقيقة أن الله يدفع الظلم بالحق وليس بظلم مثله، وإن حصل فهو امتداد للظلم وصراع بين الفراعة وجالوت وشبيهه؛ لأن الحفاظ على حق الاختيار بالعقيدة وسلامة الضروريات، هي بوجود المؤمنين الذين لا يسقطون بالاختبار: "وَلَولَا دَفعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعضَهُم بِبَعض لَّهُدِّمَت صَوَ ٰ⁠مِعُ وَبِیَع وَصَلَوَ ٰ⁠ات وَمَسَـٰجِدُ یُذكَرُ فِیهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِیرا وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ" (الحج: ٣٨-٤٠).

لننظر كيف قدم الله جل وعلا الصوامع، وهي مناطق عبادة عامة، والبِيَع وهي للمسيحيين، وجعل المساجد آخرها، فالمسلم مكلف بالدفاع عن حق المعتقد ومكان العبادة لغير المسلم قبل المسلم.

الإسلام لا يقبل الانحراف، وأي انحراف مكشوف بالأفعال والسلوك، وتمكينه ليس تسلطا ولا جبروتا، ويعبر عنه من فهمه، والاهتداء به لا يكون إلا للمتقين "ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين".

الجمعة، 12 مايو 2023

61 -- مـــــــارد الطغيـــــــان

 




CC0
الطغيان منهج

في منظومة تنمية التخلف التي نحن بيئتها، في داخل كل منّا مارد طغيان رهيب ينطلق إلى الطغيان عندما يجد له تمكينا، فحبنا للظلم هو منهج عرفه الجهاز المعرفي كتطبيق للتمكين، فكلنا يحاول أن يقوم بعمل الفايروس المختلط؛ من فايروس حصان طروادة والديدان عندما يتمكن من جهاز الحاسوب ليحوّل كل الملفات إلى نوع واحد لا يقرأ ولا يفهم، هو هذا تماما ما يُحدثه اختصار الأفكار العظيمة بجزئية فكرية؛ سيان تشوه فكري أو مصلحة شخصية أو معاناة في مجتمع يراد لها حل، ولكن بلا مشروع يحمل الحل أو تضحيات من أجل الحل، فتجد الضبابية هذه لنكون كقطيع أيل ضخم بعدده لكن لا صلة بين أيل وأيل حقيقية.

في مجتمع كهذا تُرْكَبُ القيم ولا تُحْمَل، لأنها ليست للتبني فالغاية تافهة وليس الفكر؛ تمثل حالة الفوضى غير المسيطر عليها فتسيطر هي على شخصية الأفراد وإن تباينت تلك المحتويات للناس فهي تبدو متشابهة لكن محتوياتها معطوبة. سيقول البعض إن الطغاة نصّبهم الاحتلال، نعم هم استثمروا في هذا الخلل المنهجي ويقاومون أي خروج عنه ولو جزئيا بكل وسيلة إن تماثل للشفاء أحد الحكّام وميّز بين الخط الرفيع الذي يفصل الحزم والطغيان، لا أدري صواب تقييمي كباحث ولكن ما يحضرنا كنموذج لتلك الحرب بين الفايروس ومضاد الفايروس هو الصراع المتخفي بين الغرب وأرودغان، والواسطة المحاربة له هي التفاهة والسطحية بلا رؤية أو هدف غير السلطة، وإلا الطغاة لم يُستوردوا، ولم يكونوا قبل طغيانهم إلا أناسا بسطاء في مظهرهم وربما في طروحاتهم لكن يتحرر المارد عند التمكين وعندما يفرك الإبريق كفوف المصفقين وحناجر المنافقين.

المضاد الملوث:

عندما نتحدث عن الجهاز المعرفي فإننا نتحدث عن أجهزة متداخلة في الحقيقة، فأفكار كثيرة نُقلت للمنطقة لغايات متعددة، ولم تنقل كاملة كنظم، ففُهمت من عامة الناس بسطحية الانطباع والمظهر، لم تدقَق ولم تراجَع وإنما يُحكم بها، وبالتالي ستكون ملايين الأفهام معايير للاختلاف، وقد تتطابق جزئيا لكن لا تتطابق مع الباحثين بعمق وإنما بسطحية التوصيف كما بسطحية التشخيص، لهذا عندما فسح المجال في الميديا نجد أن الناس يتهافتون بالتأييد للكلام السطحي المنقطع، الذي يثبّت القناعات السطحية عند القارئ ولا يكلفه جهدا في الفهم والعمل وإنما القناعة بالتخلف وأن النهضة صعبة بل مستحيلة "لان الشعب متخلف ولا يريد أن يعمل".

هذه القناعة عند الكثرة، فمن هو الشعب ومن هو الذي يمكن أن ينهض به؟ لا جواب في هذا الجو السفسطائي بلا عقلية راجحة أو نفسية تستطيب لها، تقطر تفاهة، يقتنع بأنه على حق وغيره الباطل، عقلية تولد رفض الإيجابية من التنوع وتقليص الفوارق عندما نناقش أنفسنا ونجعل التنوع في المدنية وليس بأفكار مقولبة غير قابلة للمناقشة أو التطبيق العملي، سواء كانت بواجهة إسلامية أو علمانية أو أي من الأشكال المطروحة والمسميات. إذن الأدوات نفسها معطوبة، لا تحاول التعاون للوصول إلى الهدف بل تمنع بعضها من الوصول إليه حتى في فهم التنافس المهني، ولطالما حُيدت عبقريات وكفاءات من أناس أدعياء خصوصا وأن الكفاءات أعجز الناس في الدفاع عن نفسها ما لم تُدعم بتمكين.

إن الأفكار نشأت وتطورت عبر الزمان والمكان، هنالك ضرورة لتفعيل الاجتهاد في الفكر الإسلامي كون الإسلام يمثل حالة الدولة والدين ومنهج حياة وحكم لكن.. بأي فهم؟ كذلك الشيوعية التي لم تتجاوز مرحلة الاشتراكية، والحداثة والرأسمالية التي طورت آلياتها وهي تتعرض لامتحان اليوم كما تتعرض أي منظومة لامتحان الاستمرار والوجود.. ويأتيك أي من حَمَلة هذه الأفكار بشكل انطباعي أو تقليدي ليأخذ النظام كقالب ويريد أن يحشر المجتمع فيه، ويُجهّلك الجاهل ويُكفّرك من قفل تفكيره وهو مكلف أن يبقيه مفتوحا.

ألم ترَ ما يحدث لكتلة جامدة عند حشرها في قالب ضيق أو فضفاض، فما بالك بكتلة متحركة! لا يُنظر إلى أن النظام استقر فكريا عند مرحلة ما، ولكن هذه تحتاج مراجعة لتكون مدبرة لعصرنا، ولا يُنظر إلى الزمن والإسقاطات التاريخية التي ولدت العلمانية، ولا الإرهاصات والمشاكل التي قادت النظام الحداثي لنراه اليوم وهو يؤسس لقوانين غريبة عجيبة لكنها وفق منهج لم يراجَع منذ مدة أيضا، لغلبة السطحية وإبعاد النظرة الفلسفية عن التقويم.

فالرأسمالية التاريخية الغربية فرضها الاقتصاد، لكن الحداثة والدولة في الولايات المتحدة تقدمت فلسفيا لغاية منتصف القرن الماضي وتجمّدت لتمتد المعالجات وفق مفاهيم تحتاج لمصطلحات تحتاج تطويرا ولم تُطوَّر، فكانت التشوهات نتيجة جمود تعريف كاللذة والرفاهية لنصل إلى الشذوذ القانوني، وهو ما تبنته حتى الحداثة في أوربا وما يعرف عند الجميع بالليبرالية الجديدة التي تحتاج أن تُهذَّب لكن مع ضياع المسلمين ستبقى مسببة لشقاء الآدمية.

واقعنا كأمة في مفرق طرق، فلا الدولة التاريخية تنفع ولا الحديثة تنفع ولا سلطات التغلب والأفق الأحادي الضيق سواء من منظور ديني أو قومي أو توجه منقوص كما يرى البعض من العلمانية والليبرالية، وهما آليتان وليستا أيديولوجيا، ولا الرأسمالية التي نشأت الدولة الحديثة لحمايتها

الدولــة:

الدولة مرت في التاريخ بحالة من التطور، من منظومة العشيرة إلى المدن والمناطق، وتعددت أنواع الإدارات، ولم تك الدولة تدخل كل تفاصيل حياة المواطن حتى أتت الدولة الحديثة ليكون المواطن صناعة الدولة والمتحرر بالعبودية لها.

واقعنا كأمة في مفرق طرق، فلا الدولة التاريخية تنفع ولا الحديثة تنفع ولا سلطات التغلب والأفق الأحادي الضيق سواء من منظور ديني أو قومي أو توجه منقوص كما يرى البعض من العلمانية والليبرالية، وهما آليتان وليستا أيديولوجيا، ولا الرأسمالية التي نشأت الدولة الحديثة لحمايتها.

خلاصة: لإقامة دولة ونموذج إداري وفكري لا بد من إعادة النظر في استقراء واقعنا، واستنباط فكر يفهم الغاية من الخلق وليس فكرا متمحور حول السلطة فحسب، ولا على الإخضاع الأسبرطي والإجبار الكهنوتي أو إجبار الناس أن يكونوا على رأي واحد، بينما رب العباد يقول في القرآن إن المؤمنين أقلية (الرعد)، وإنما هذا التنوع ليس يديره بعدل مثل الفهم الصائب للإسلام عندما لا يتقيد بمعنى الدولة الحداثية؛ وإنما الدولة الراعية لمصالح الأمة والشعب في الداخل والخارج، وإن كانت الأفكار المشوهة والسلبية والتي رُسخت في عقل الخاصة قبل العامة صعب تغييرها، وتحول الخاصة إلى الفهم الصواب ، فبلا تغيير كهذا يصبح التمني سيد الموقف وحديث مجالس وخطب لا واقعا له أو آلية تمكين؛ وتبقى العدالة والآدمية محض تجارة للمصالح وسوق أوهام للمارد الطاغية داخلنا.

السبت، 6 مايو 2023

60 - معوقات اليقظة

 


الجهاز المعرفي:

الجهاز المعرفي يمثل مجموعة الأفكار وطريق التفكير ومنهج التفكير والفهم، كما أنه يرتب الأولويات ويقدم ويؤخر في المواضيع، من أجل هذا، فإن ما يصيب أي أمة من تخلف هو بسبب فشل جهازها المعرفي، كذلك النجاح والصعود بسمو الجهاز المعرفي، فإن جمد ولم يواكب الزمن، عاد الجهاز ذاته ليكون سببا في التخلف، فالحياة تتوسع في متطلبات الفكر وتتطور بمتطلبات المدنية.

كيف يفسر الجهاز المعرفي بعض المفاهيم والمصطلحات:

التمكين، غالبا ما يفهم بأنه القدرة على البقاء والتأثير وكسر شوكة الأعداء أو المخالفين مع مرور الزمن، وأن بقاء الحاكم دليل نجاحه، وهذا ليس صحيحا، فتناغم الحاكم والمحكوم وارتباطهما بعقد قبول بعضهما لبعض، هو التمكين وهو النجاح، أي إن الحياة في المجتمع وتجانسها بما يمثل كلا من الحاكم والمحكوم هو النجاح، وإن لم يستمر الحاكم بحكم الظرف أو لأي سبب.

كذلك فإن مصفوفة الفكر عادة تكون تعاملات تشبه الرياضيات، لتنتج أمرا منطقيا من تشخيص وتحديد اللوازم والتخطيط لحل أي من الأسئلة، كذلك هي قادرة على معالجة التحديات كفاعلية ضمن التخطيط والتحصين. أما الظن بأن التخطيط من الآخر قدر مقدور، وتعيين جملة من المسلّمات التي تدعم بمقولات دينية لا تدري مصدرها في حقيقة الأمر، فيخلق حالة من الاستسلام الإرادي والقبول بالإخفاق ووقف التخطيط.

وهذا الخلل أيضا من الجهاز المعرفي الذي نقل بفهم خطأ للقضاء والقدر وعلم الله، وهنا تظهر حالتان، فإما الاستهانة بالمخاطر والتحديات دون دراسة أو معطيات، بل لا أحد يفكر بها وهو يهذي بكلمات وهتافات عاطفية دون فعل، أو الاستسلام الذي ذكرناه. فلا بد إذن من دراسة واعية ومراكز دراسات ترتقي بالناس وتوجه في ذات الوقت، تضع الخطط وتثقف وتدرب.

فاعلية السلوك:

فاعلية السلوك تظهر في المجتمع وتمثل ثقافته، كذلك في الحاكم وخطواته. ادعاء الحسن من الفعل والنتيجة هو كذب على الذات، يقفل طريق اليقظة والإصلاح ليستمر السبات، وهذا بالتأكيد يعني وجوب البحث عن الحقيقة المتجددة التي لا تملك، وإنما يكون الوصول إليها هدفا وليس الغاية للفعل؛ لأن مجرد الوصول إليها تكون الأمور قد توسعت وامتدت وأضحى المطلوب أكثر حداثة، فلا امتلاك للحقيقة، ولا يوجد نهاية للعالم ما دام الإنسان يعيش عليها والقيامة لم تقم.

الفهم:

إن فهمك لما تعتقد، هو ما ينبغي أن يجسد السلوك والأهداف ثم الغايات، ففهم المتدين للدين يمثل ما فهم وليس الدين، كذلك فهم المنقول من قيم إيمانية أو إلحادية أو أي ما يمكن أن يكون معتقدا للآدمي ومخرجات تفاعل فكره، فنحن نحتاج إلى الاستنارة بالحقيقة، وليس امتلاكها والجمود عند الظن بامتلاكها؛ لأن من يظن أنه امتلك الحقيقة، فهو لن ينظر لجديد ما لم يكن منفتح الذهن، فهو يستنير بها وتنعكس على أحاسيسه وخلجات نفسه، بل عموم سلوكه وإبداعه.

منهج الراشدين وليس ما اجتهد الراشدون:

النجاح الذي حققه الراشدون؛ لأنهم كانوا يفهمون المنهج القرآني؛ فعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ الذي تفتخر الأمة بعدله ولا يختلف على هذا اثنان، اجتهد اجتهادات لو فعلها أو استحدثها في عصرنا أي متصدر في الحراك الإسلامي، لخرجت أصوات تسفهه وتكفره، بل لشنّعت عليه أنه عطل الحدود وغيّر توزيع الغنائم، وكثير من الأمور التي احتاجتها الدولة والحكم.

تلك هي الطريق الصائبة وذاك هو منهج عمر اجتهد لعصره، بينما منهج يتبع اليوم لا يسمح بالتجديد وإدارة الدولة نحو المستقبل، بل الكل كسر رقبة الأمة بالالتفات إلى الخلف، ولا يريد أن يوقف الزمن فحسب، بل أن يعيد الماضي بأحداث التاريخ ومشاكله واجتهادات رائعة في عصرها لكن لا تصلح لعصرنا، ناسين أن الله جل وعلا ذم التقليد والاتباع الأعمى، ودعا إلى إعمال المنظومة العقلية والتجديد مع الزمان والمكان وتغيراته، وقال؛ إن القرآن مثاني (طيات) افتحوها وعيشوا زمانكم، خلاصة القول: ما لم نتوقف عن هذا، فهذه الأمة لن تنهض بل ستبقى في تخلف، محتقَرة مهانة عالة على الوجود؛ لا فاعلية لها بما يجري حول العالم من تدهور للقيمة الآدمية، فمن لا ينهض بالآدمية في نفسه لا يستطيع أن يرتقي بها لغيره.

التطور المدني:

اليوم أبسط الناس ممن يستخدم التقنيات الحديثة والابتكارات والصناعات، يعيش عيشة الملوك في الماضي. علماء عصرنا ومفكروه والباحث أمام حاسوبه، يستحضر علوم الأولين والحاضرين بكبسة زر. إننا إذن أولى بالاجتهاد من التقليد أو التصديق والتسليم الأعمى بما أنتجه فقهاء وعلماء لعصرهم وفق ما حصلوا عليه، لسنا مجبرين أن نقدس رأيا لأناس حديثي الإسلام في عصر لم يكن فيه إلا أربع نسخ من القرآن معتمدة ثم تزايدت، لكن لم تصل دفعة واحدة من دفعات المطابع في عصرنا والمتاح على شبكات التواصل وبلغات متعددة.

ليس هذا يعني أن نلغي ونحدّث، بل توسيع لحاء الشجرة الطيبة من أصلها الثابت لتنتج ثمارا ولا تقف متيبسة عقيما. إن واجبنا ليس تمجيد الماضي ونصرة المظلوم في التاريخ، ونحن لا ننصر الحق في الحاضر ونظلم الناس فنظلم بظلم أبرياء بل باختراع الحدث كما نهوى، ونوسع بيئة الجهل بدل أن نقاومه وندعو للعصبيات. وقد تبرأ الرسول من جنس العصبية حتى لو كانت لحب الدين من منطلق غرائزي وانفعالي ومهين لأعظم ميزة للآدمي، هي منظومته العقلية.

إن الحياة إلى نهاية كما بدأت، والكل عائد إلى الله بلا مال ولا جاه ولا منصب ولا نصرة لذاته أو خسارة أكثر من عمله وسلامة ما توصلت إليه منظومته العقلية، ولا يحمل وزرك أحب الناس عندك وأحبهم أنت لفؤاده.


https://arabi21.com/story/1510719/%D9%85%D8%B9%D9%88%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%82%D8%B8%D8%A9


الأحد، 30 أبريل 2023

59 - شــــــــــروط النهضـــــــــــــــــة

 



معوقات النهضـة:

تكلمنا عن التخلف وأسبابه في مقالات سابقة، لكن التخلف له علاج كما حاولت أوروبا ونجحت عبر عصور أن تحقق التنمية والتطور بغض النظر عن التفاصيل والمآل الحالي، بيد أننا وعند النظر إلى مجتمعنا نجد انطباعات متأثرة بالغرب زُرعت لكن نحن من نسقيها وننميها لتكون أدغالا تسد طريق التنمية والنهضة؛ لأننا لم نصمم كشركاء وإنما مستهلكين سنجد نمو القشور وغياب الفاعلية الإيجابية.

أوتاد خيمة التخلف:

تغييرات أثرت في مسارات الاجتهاد والتجديد في منطقتنا، كما ظهر جوهر هذه التغيرات في أوروبا، فعلى سبيل المثال كان الوقف يمثل تكاملا والمجتمع عندما يقر علماء الدين بقبول الاجتهاد المشجع لتنمية الأوقاف من حيث الإدارة ومن يدير وكيفية استثماره، بينما يجمد عندما لا يباح استثمار وتنمية أوقاف المسلمين. وكان يدخل في تفاصيل حياة الناس مثلا استخدام ذهب الأوقاف للعرائس أثناء الزفاف ومراسم الزواج، هذا نموذج من تكافل المؤسسات وكذلك الزكاة والصدقات التي تترك أثرا نفسيا إيجابيا عند المحسِن والمحسَن إليه. الدولة تقوم بهذا الأمر في الحداثة فهي تجمع الضرائب وغيرها وتدير عملية رعاية اجتماعية في احتياجات الناس من البقاء، ونجد نظام التأمين والضمان الصحي وغيرها مما لا يوجد عندنا بشكل عملي ونافع ليؤدي الغرض في احترام كرامة الإنسان؛ لأنه كغيره من النظم الرأسمالية الليبرالية منقول بلا حيثياته ولا غضاضة في الآلية ما لم يطَلها فساد.

إبان زمن النهضة الأوروبية تحرك رأس المال ليغزو بلاد المواد الأولية ومنها منطقتنا، وعند هذه النقطة نشأت الحداثة. لم يك الاحتلال الذي سلك أسلوبَ استعمار المناطق والناس وتطبيق الوصاية عليهم وإذلالهم لدرجة إقناعهم بهذه المهانة والتفوق حتى نجد اليوم تقديسا صامتا، لكنه يظهر في سلوك الناس تجاه القوى المجددة وتحييدها أو إحباطها. فالاستعمار بنى فكرا كما يريد وثقافة كما يريد، وباختصار نفسية وعقلية عبيد عند مجموعة من النخبة، ومن تركهم بعده يحكمون المنطقة كانوا نوعا من القادة لا تذكرهم الكتب الحديثة بلا رؤية، مقفلين يمثلون حالة من الهلامية والضيق في الأفق وحجاب أمام النهضة الحقيقية. فهم ليسوا مديرين لمنظومة الحكم ولا قادة رجال دولة يفكرون في رقي بلدانهم، ولا أصحاب مشاريع حقيقية، بل يستدعون الصراعات الوهمية من أجل استغلالها في قمع المخالف وإذلاله.

الحركات المعارضة:

عندما قامت الحركات المعارضة للنظم لم تك تحمل رؤية، فهي من ذات المدرسة التي تطمح إلى السلطة، وعندما تصل للسلطة تتحول إلى القمع والتنكيل بمن سيظهر كمعارض. وأخذت أشكالا قيمية من القيم الرفيعة للأمة، لكنها شوهت هذه القيم فأضرت بالأمة حين تلبست بقيمها.

الإسلاميون ظهرت أفكارهم عند تداعي الدولة العثمانية، فكانت أفكارا برد الفعل وليس الفعل الحقيقي المدروس وله منهج يقابل التحديات والتشوهات الفكرية والاجتماعية وإدارة عملية الإصلاح بلا مشاكل، فنجد أن هنالك من وضع الجهاد في غير موضعه، وهنالك من وضع فكرة السلم في غير موضعها، فكانت الحالتان مهلهلة مليئة بالفتحات كالغربال.

هنالك من فكر باستئناف الحياة الإسلامية وكأنها توقفت قبل ساعة، وهنالك من اعتبر النموذج هو نموذج الراشدين أو العباسيين أو الأمويين أو غيرهم، وسادت فكرة التغلب مع العجز فأضحى الحكام الانقلابيون شرعيين، وأتى من لا يفهم في إدارة شؤون الناس لكن يجيد قمعهم وجلدهم وتضييع النخب؛ بل تشويه مخرجات النخب الفكرية من شدة ألم التعذيب والسجون.

الحركات بمجملها كلما تقدم الزمن تخلفت عمليا ومارست القمع ضد أي تجديد من داخلها، فنتج عن ذلك ما نراه اليوم من انحرافات في الحكم وفساد لدى العلمانيين والإسلاميين، والنتيجة دمار عملي عندما تتوسع الشقة بين منطقتنا والتطور المدني لنصبح مستهلكين مع هذه العقلية العدمية؛ فلا مراكز دراسات ولا رؤية وإنما انجرار نحو هاوية التخلف.

تقليد الحداثة المشوه:

نتيجة التطور المدني في الصناعة والاقتصاد والاختراعات التي تواكب التطور كانت فكرة براءة الاختراع، وهي فكرة فرضها نظام يرتكز على النفعية؛ فله قوانين تكاملية، وقد تأثرت النخب عندنا بطرق متعددة، كإخفاء المعلومة، واستغلال الاختصاص في امتصاص المال دون النظر إلى الفقير، وهذا بغياب يد الدولة، فيقتل الناس بمرض وجوع والحياة عموما بالعَوَز.

الدولة عندنا سلطات ذكرنا ماهيتها، فهي ليست تتعامل مع تحصينات النظام الرأسمالي، والمنبهرون بالرأسمالية يعتبرون تطبيق أي فكرة وكأنها انتصار نتيجة انغلاقهم؛ ولأن رؤيتهم للنظام الرأسمالي انطباعية وليست عن فهم عميق. وهذا الذي لا يختلفون به عن الإسلاميين الذين يعتبرون مثلا منع الخمر بالقوة نصرا وكلاهما لم يعالج الجوهر. التفكير بنظم مقولبة لا يأتي بنظام تنمية، بل بنظام الربح فيه أهم من الإنسان، ودولة لا تبني مثلا نظاما صحيا يجعل المسؤول مطمئنا أن يعالج نفسه به إن مرض.

شروط النهضة:

إن التقدم لا يحصل إلا بفهم سنن الكون الاجتماعية بالذات، والتناغم بين الدولة والشعب، وهذا يصعب في واقعنا وقلما يحصل بعمق اللهم إلا ظاهريا نتيجة الخوف أو النفاق، والخوف لا يبني كما اللص لا يحافظ على المال ولا المنافق يهمه غيره.

تغيير النفوس أولى معالم التغيير: لأنها تضبط قواعد السلوك والإحساس بأن البلد بلدك وكل ما في الشارع هو ملك الأمة التي أنت جزء منها، وهذا يقود إلى ضرورة وجود الحكم الرشيد الذي تثق به الأمة، شخصية الإنسان هي أهم شرط من شروط النهضة وتفكيره انعكاس لإحساسه؛ فإحساسه بالرقي يعني النهضة وإحساسه بالدونية يعني أنه لا يتوقع خيرا من محيطه فلا يهتم بتطويره إلا استيرادا وشكليا، وهو واقعنا اليوم.

الرؤية والقيادة الأخلاقية: وهنا دور مهم للقيادة في وضع الرؤية الواضحة وكيفية إدارتها، وإحباط الزوائد العفنة التي تحطم الإنجاز وتثبيط السلوكيات المنحرفة وتحجيم المعارضة للتغيير؛ سواء الطبيعية أو من يحس بتضرره لتغيير مصالحه وإرساء القيم العليا عمليا ومن خلال القدوة وأن يكون للأمة رسالة تحملها وتدافع عنها وتربط بين أفراد المجتمع لتحقيقها.

المعايير العلمية والدراسات: وهذا يعني التركيز على مسارات النهضة وإنشاء مراكز دراسات واختيار العاملين عن دراسة ودراية، وليس عشوائيا، وإجراء الموازنات والميزانيات المالية والتخطيط والرقابة والمتابعة عند التنفيذ.

علينا أن نعرّف وندرك دقائق ما ندعو إليه، فأكثر زاعمي الليبرالية والعلمانية والناقدين لمجتمعهم لا يعرفون حقيقة ولا تفاصيل ما يزعمونه، وهذا سيجعل القيادة بيد مسوخ قشرية.

 كذلك قدسية الإسلام ببلوغ مقاصده وليس بتقليد الأولين وتقديسهم، فنحن مكلفون كما هم كانوا مكلفين، والإسلام العمود الأساس لنهضة الأمة بما حوت من أديان، فهو ليس دينا رعويا وإنما منهج إدارة حياة كقيم وثقافة ينتمي لها الجميع وملك للجميع، وأن التقدم ليس بمسايرة الغرب والشرق وإنما بالتعاضد للتعاون في صنع الحياة، فإسقاط تاريخي صنع نظما كالرأسمالية مثلا، سيكون مسخا إن لم ينقل بكامله، ونقله بالكامل يحتاج إسقاطا تاريخيا ليس متاحا في مجتمعنا.

من أجل هذا علينا بفهم جديد وقراءة جديدة لمثاني القرآن من أجل حياة تنتجها منظومة عقلية كما أرادها الله؛ لا كما استعمرها التخلف وغرائز البشر.

الجمعة، 28 أبريل 2023

58 الموارد المائية ما بين الطاقة والتنجيم

 



ســـوء التدبير وفوضى صنع القرار

الموارد المائية والطاقة بين الإدارة والتنجيم – محمد صالح البدراني

حينما يكتب المختصون وذوي الخبرة في الموارد المائية؛ فذاك من حرصهم على أن تدار الأمور بشكل صحيح وربما حاولوا دائما أن تكون كذلك ولكن العمر أو الظرف أخرجهم خارج المجرى ولم يحققوا الكثير اللهم خبرة لا يهتم بها وصوت بح فلا يسمع وان سمع فلا يفهم.

لا ازعم أن ما يطرح ذوي الخبرة والاختصاص هو حلول ناجعة؛ بل غالبا ما يكون طرحهم استعراضا وصفيا للمشكلة ويخلص الكل في كتاباته طالت أم قصرت إلى عبارات متعددة الصياغة، “أن البلد بحاجة إلى مراكز دراسات” وليس مركزا واحدا يتعامل مع مخلفات الماضي وركود الحاضر لما سنواجه بل نحن فعلا نواجه منذ بضع سنين.

البلد يعاني من فقر إداري متراكم ونبرات نشاز عدمية لمعالجة المشاكل وصوت عالي دون أن يملك البلد مواجهة تبعات هذا الصوت وصداه، ومازالت خيارات المسؤولين لمستشاريهم أو من يكونون في مواضع الدراسة والقرار ترتكز على الولاء والطاعة وراحة البال وتبرير الأمور ولا نرى معالجات أو أفكارا لعلاج موضوع لن يحل مع مرور الزمن وإنما تتعاظم مشاكله وتلتف على بعضها بعقد سيكون يوما ما هنالك استحالة لحلها دون دفع أثمان باهضه، فإبقاء الوضع على ما هو عليه والزمن يمشي والمحيط يتطور؛ هو قرار ألاّ يصنع قرار سواء عن علم وتفضيل السلامة بالسكون أو عن جهل لضعف مؤهلات من وضع موضع القرار وغالبا ما تجتمع الحالتان، وتبقى الحاجة قائمة لبناء ما كان ينبغي بناءه منذ زمن لعلنا نتدارك الأمر.

الإبداع العلمي

ليس من النجاح أن يدخل الماء من الشمال ليخرج من الجنوب أو نراه وقد امتد إلى الضفاف فنرتاح نفسيا، المهم ما نفعل بهذا الماء، وان كان الوقت والعراق يمر من حصار إلى مشاكل داخلية وخراب بينما الآخرون مشغولون في بناء بنيتهم التحتية، وربما تركيا التي دوما يركز الكتّاب عليها في المياه بحكم أن الكمية الكبرى تأت من منابعها رغم أنها لا تمثل اكثر من 20 بالمئة  من مساحة الحوض لكنها الأوفر بالينابيع والثلوج، هذه الدولة بدأت من نمو تحت الصفر عام 2002 لتكون الآن ما نراها وهذا ليس اعتباطا وإنما هنالك خبراء تداولوا المهام ليرتقوا بهذا البلد صناعيا واقتصاديا، وأما المياه فقد استشرفوا ما يحصل منذ زمن بعيد فبنوا السدود ذات المهمتين، الخزن عند الوفرة، وجمع ما يمكن وبتوزيع جغرافي يخدم اجتماعيا واقتصاديا البلد واستقراره عند الشحة، ومازال دجلة يجري والفرات في العراق ونقف حائرين يهددنا الطوفان بالأمطار، ذلك لان البنية التحتية غائبة مع توسع للمدن بلا ضوابط وترك القرى خاوية لأنها تحت وطأة الظروف أضحت مكانا ليس صالحا للعيش، وهذا له اثره من الناحية البيئية والاجتماعية والاقتصادية بل العراق بلا إنتاج عمليا، ولابد أن تعود الناس لأماكنها وهي تحمل معها مشاريع تفيد الأمن الغذائي للبلد من ثروة حيوانية وزراعها ومصانع تقوم عليها…. لماذا اذكر هذا؟ لان هذا كله لا يأتي بلا ماء، والماء لن يأتي بشتم الجوار أو انتقاد من حول المجرى كحل غريب لن ينفع على المدى الطويل أو خزن المياه وهي تتجه نحو الجفاف…… حوض دجلة والفرات يحتمل تعرضه للغياب، ويحتمل أن يفيض فلا توجد ملامح دراسات تبت في هذا اللهم إلا من يفكر بعقلية المنجمين، ولا تعاون واضح بين دول المنبع والمصب ولا اتفاقيات عدى اتفاقية الجزائر 1975، وبغض النظر عن الاتفاقيات فالظرف الآن يهدد الجميع ولابد أن يتعاون الجميع لحله، الوزارة في أي فرع من فروع الطاقة، النفط ، الكهرباء، الماء، ليست وزارة وظيفية وتمشية أعمال يومية، وإنما هي وزارات استراتيجية للبلد وقيام دولة، المشاريع فيها لا ينبغي الحديث عن صيانتها إلا عندما تبلغ ما صممت له، وإنما الحديث ينبغي أن يكون عن علاج وحلول لتأهيلها لمهمتها، العراق تخلف كثيرا وضاع منه وقت كثير  عن دول تقدمت بلا نفط والنفط ما لم يستثمر طاقة مهدورة، لذا فنحن نحتاج إلى قادة مبدعين قادرين على العمل بروح الفريق وتحويل الموارد البشرية إلى موارد منتجة اهتمامها بالإنتاج ورقي البلد.

من هذا الملخص نأتي إلى امر جامع، نحتاج ببساطة إلى رؤية واضحة وتعاون حقيقي بين الدول الأربعة، وربما أن تكون معها دول الخليج والأردن للقيام بتخطيط لمشاريع استراتيجية تواجه الوضع الغامض القادم وكشف غموضه بتعاون بين هذه الدول….. إذن لابد من قيادات مبدعة ومراكز دراسات حقيقية منفردة ومشتركة، وفضاءات التكامل في إدارة الموارد المائية والطاقة عموما لان ما يقال اليوم لا أستطيع أن أقول انه علما أو حلولا وإنما في أحسن أحواله تشخيص، وما خلا ذلك من خيارات فهي عدمية العجز عن إيجاد الحلول وتنجيم.

{  مهندس استشاري



الجمعة، 21 أبريل 2023

57 -هل آن الاوان لتقاعد الاخوان

 



فشل منظومة الحداثة

عاملان يتفاعلان مع الإنسان بتأثير متبادل، هما الحضارة وهي في معناها الفكر المشكل للهوية وإطار الثقافة للأمة مهما تنوعت أو تعددت في تركيبتها، والمدنية التي هي تراكم للجهد البشري ككل لكنه يتطور في كيان مدني؛ دولة أو بقعة جغرافية عن غيرها وبأشكال متعددة. فنحن نرى بلدانا كالولايات المتحدة والصين تتصدر تنمية المدنية وتتسابق بها لدرجة تبدو أنها تفقد السيطرة على مساراتها، وتأخذ الدول الأخرى كالدول العربية دورا استهلاكيا، بينما هنالك دول نامية في ثورة التنمية كتركيا وكوريا، ويمكن أن تجعل اليابان في رأس القائمة لبعض الإنصاف؛ وتقدم في جوانب عسكرية إضافة لجوانب صناعية مثل باكستان والهند وايران.. التصنيف هنا ليس على الصناعة فحسب وإنما الكفاءة ومعالم التطور.

الولايات المتحدة التي حاول سياسيوها الانعزال عن امتدادهم الأوروبي، لم يكونوا بحاجة إلى أيديولوجيا أو سردية تجيب على أسئلة كبيرة وكذلك دول أوروبا، بعد أن أقنعوا أنفسهم بما فعلوه ويفعلونه بمعيار النفعية والبحث عن المتعة والرفاهية. أوروبا استسلمت لقيادة وتأثير الولايات المتحدة، والعالم بدا غير مقاوم بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، لكن نظامها ويتبعها النظام الأوروبي فاقد لفلسفة يستمد منها الثبات أمام المتغيرات مع تقارب المسافات وصغر العالم بتقدم التقنيات والمواصلات والاتصالات.

وكان للإنترنت دور كبير في هذا من ناحية إيجابية وأخرى سلبية، فهذه الاتصالات سارعت العالم ودوران الفكرة وتساقط الكلمات وإعادة تشكيل الجُمل، والميل للاختصار وقراءة الجمل وإعطاء الحلول التكتيكية، وهذا يثبط بناء الاستراتيجيات أو التفكير الاستراتيجي على المدى الطويل ويغير آلية حل المشاكل، وربما يسبب ألما لفئة أو شعب، عن طريق التعامل وفرض الهيمنة من أجل قوة الاقتصاد المبني على القوة وإخضاع الدول ذات مصادر الطاقة والثروة، كما أمسكت ورقة حماية الخليج ولم تك مخلصة بها لأنها كانت تعتبرها ورقة مساومة لإخضاع دول أخرى بطرق مختلفة، رغم أن قوتها الاقتصادية أغلبها تعتمد على بيع النفط بالدولار، إلى أن وصل جيل جديد للحكم لم يعد يحتمل هذا الأسلوب ورأينا حراك التغييرات الجيوسياسية الحاد في المنطقة، ذات الشيء حصل تجاه دول أخرى كفرنسا في أفريقيا.

أمريكا تصدرت العالم وفشلت في قيادته، فالقيادة تحتاج الى فلسفة أيديولوجية ليست متوفرة في الولايات المتحدة، فما لديها قيمة النفعية التي تجمع بها مجموعة من الآليات فشلت في أن تكون أيديولوجيا رغم ما يتكلم به السطحيون والمنبهرون في مجتمعات غيرها، وهم يرون منظومة السلوكيات التي نضجت لضرورات التعامل والتوازن المجتمعي؛ لتكون ثقافة محمية بقوة وصرامة القانون الذي يعني التفكير باختراقه اختراقا لنمط الحياة ككل، والذي بات اليوم مهددا وكأنه انتحار ذاتي بدواعي الرفاهية والمتعة والبحث في الضياع، لنرى الشذوذ الجنسي المقدس، وإرغام الآخرين على تبني قيم شاذة، وهذا يجعل من الولايات المتحدة ومن يشبهها في الغرب يشكل خطرا على البشرية دون أن يفكر دعاة الشذوذ والحكومات التي تحميه بمدى خطورة ذلك، مرتكزة على قوى يمكن أن تتهاوى في أية لحظة واقتصاد يعتمد دعائيا على تلك القوة، والحقيقة أنه يعتمد على اقتصاديات بلاد هي أول من يحس بالتهديد لمثل هذا المسخ والتشوه في النظام الدولي.

منظمات إسلامية منتهية الدور نحتاج منظومات بديلة:

في عالم تتأرجح فيه القوى المدنية العظمى لا بد من إيقاظ فلسفة فكرية تستطيع أن تنقذ العالم من هذا التيه، والظاهر من الإسلام هو ليس الإسلام نفسه وإنما صيغ مشوهة عمدا أو نتيجة تمشية سياسات الإخضاع والأطماع من دول محلية في العالم المسمى بالإسلامي، أو من دول خارجية متعاونة مع وكلائها الذين أورثتهم السلطة.

منظومة كمنظومة الإخوان المسلمين، من الواضح أنها شاخت وأخذت بالتفتت نتيجة الرغبة في الحفاظ عليها، إنها منظومة لامست إتمام 95 سنة على انطلاق فكرتها من مجدد توقفت عنده عملية التوسع والتماهي بشكل استراتيجي من أصل الفكرة، وإنما كانت براغماتية ارتجالية تقف عندما يطلب منها تجاوز الخطوط الحمراء.

إن أي منظومة تعبر جيل ولا تتحقق في ريادة الحكم وهي ترتكز عليه في فكرتها لا بد أن تتقاعد لأنها لم ولن تتغلب على التحديات، وهذا ظاهر الأمر لكن في داخلها تقوقعت وجف ينبوع التطور فيها منذ زمن؛ وتعتبر أي تغيير أو تعديل هو تهديد يتناغم مع التحديات. هذه المنظومة لن تنجح لأنها عندما تستلم السلطة ستحكم بقوانين الطغاة ولا بديل لديها لأنها تعيش في الماضي، ولم تنتج ما يقود حاضرا تستلمه وتركز على الولاء وتعطي درجة أدنى للخبرة، فلا قانون الطغاة يحكم الطغاة أو يدينهم ولا يعيق امتداداتهم التي هي أسوأ منهم. إذن هي الثورة المضادة فيظهر فشل منظمة لم يكتشف فشلها نتيجة المحرمات على التجديد الفكري والوقوف عند علوم الأقدمين، بل تقديسها واعتبارها ثوابت لا تُمس وقد يُعزل مخترقها.

وهنا كان الاختراق عشوائيا وأنتج أناسا ناقمين على الحركة متطرفين في ردود الفعل ضد كل السلمية التي فشلت في تحقيق شيء، ونتج أيضا أناس يقدسون الماضي بأنه النموذج الذي لا يطال وانحصرت مثاني القرآن المكتشفة على التغني بما يكتشفه متحررون نسبة لغيرهم كالغزالي والشعراوي، وأصبح العداء مع الأنظمة القائمة سمة أو تعاونا منقوصا مشروطا والخطأ في جمود المنهج وتقديس الأثر القريب والبعيد.

الغاية من هذا الكلام ليس توصيف أسباب ما آلت إليه الأمور ولا انتقاد الحركة، وإنما القول باننا بحاجة كأمة إلى فكر يستقرئ الواقع لاستنباط ما يقود هذا الواقع لإنقاذ البشرية؛ فما يحصل من تقليد أو الانبهار أو التبعية هو ظلم للآدمية وقيمة الإنسان.

إنشاء منظومة جديدة بفكر جديد تؤسس لفكرة حكم رشيد تفيد منه النظم الحالية لإصلاح ذاتها وتقوية وضعها؛ أمر مهم لأننا أمة ضائعة بلا هويتها ولا بد أن يضحّي الكل ويصغي لحركة التاريخ خشية عبور طيات الفكر، ونحن في سبات أو نقتل الأمل، فليس معقولا أن تستمر الأمة في صراعات داخلية ولا تتصالح مع نفسها وتنتج فكرها وتفيد من ثرواتها الحالية والقادمة في الطاقة العالمية، ليس معقولا أن يكون الصراع بين الحكام ومنظمات الإصلاح وإنما ينبغي أن يتفقوا على كلمة سواء لتوحيد الجهد والبناء المجتمعي والقيمي التدريجي مهما امتد من زمن، وتكون عكازة يستند القوى العظمى عليها وتضربها بذاتها أو بخلافاتها مع النظم؛ بينما هي مؤهلة إن فكرت استراتيجيا أن تقود العالم إلى الرفاهية والكرامة الإنسانية والسلم العالمي والحديث عميق لم نتغلغل إلى أعماقه.

نشرت في العربي 21

الرابhttps://arabi21.com/story/1507938/%D9%87%D9%84-%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%A7%D9%86-%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86ط

الجمعة، 14 أبريل 2023

56 - الدولـــــــــــة الحديثــــــة واشكــاليــــــــة فهمهــــــــــا

 



مفهوم المواطنة ما بين وثيقة المدينة والدولة الحديثة:

من المعلومات التقليدية التي احتواها جهازنا المعرفي عن مفهوم الدولة، أنها تعاريف طوباوية ليست حقيقية عند التطبيق. ومن هذه التعاريف أن الدولة هي عقد اجتماعي يُتفق عليه في الأمة لتقوم هذه الدولة من خلال تفويضها بمهام خدمة المواطن بالنيابة، كوظيفة بعلاقة تبادلية تعطي بعض الصلاحيات لحفظ النظام وتضارب المصالح من خلال قوى تسمى القوة الأمنية؛ كشرطة لحماية الداخل وجيش لحماية الحدود للدولة الوستفالية، أو لما عرف قبلها للتوسع وجلب الغنائم أو الدفاع عن البلاد المشمولة بالنفوذ من الطامعين. هذا بكل تبسيط مفهوم الدولة بشكل عام.

وان أردنا أن نفهم معناها بالنسبة للإسلام، فهي تراتيب إدارية تتوسع وتتقلص وفق الحاجة وإدارة الموارد مع حاجات الناس، وبرأس منتخب فعلا وليس مختارا كما في الديمقراطية. ولكن معالم هذا الانتخاب لم تتبلور جيدا، فقد حصلت الفتنة لتتحول الدولة إلى مَلَكية، تاركة أثر الرسول ﷺ في تحديد أول وثيقة تؤسس لمفهوم المواطنة الذي لم يحافظ عليه تماما؛ بتغلب النبرة القبلية مع الملكية الأموية والعباسية وما تلاها من حكم السلاطين، الذين لم يراجعوا بل لم يسمحوا بالمراجعة، حتى عندما اعتكف معاوية بن يزيد ناكرا أن يكون هو الخليفة الشرعي لمجرد انه ابن يزيد، الذي مات موتا غامضا تاريخيا لتنتقل السلطة إلى البيت المرواني، فكانت دولة بمواصفات عالية عند عبد الملك بن مروان.

الخطأ الذي نفسر به ما يحدث في الحداثة من تقلبات تصل لصناعة حرب هنا وهناك أو حرب عالمية كبرى؛ هو جهازنا المعرفي الذي ينسب السلوك إلى الأخلاق بافتراض التطابق؛ بيد أن السلوك ليس الأخلاق، لأن السلوك فعل على الأرض والأخلاق قيمة


وثيقة المدينة تمثل حالة متطورة من المواطنة التي تثبت العلاقات وحقوق المواطنين بينهم وبعضهم وبينهم وبين الحاكم الذي بويع حينها، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتصرف في الحكم كأي بشر.

مفهوم المواطنة في الغرب لم يك واضحا بعد النهضة، لكنه اتخذ شكلا ليس متعاملا في الحقوق فحسب بل إن المواطن هو صنيعة الدولة (وهذا الوصف أتى دقيقا من الدكتور وائل حلاق)، فالمواطن محدد بقوانين الدولة حتى في طريقة تعبيره عن رأيه، وإن أي خروج عن هذا النمط يعني أنه خارج عن القانون مهما كان. وأقرب الأمثلة هو رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب ومحاكمته، وهذا ليس من باب العدالة وإنما خروج عن النمط أو لإقرار مصلحة ما لأصحاب المصالح.

الخطأ الذي نفسر به ما يحدث في الحداثة من تقلبات تصل لصناعة حرب هنا وهناك أو حرب عالمية كبرى؛ هو جهازنا المعرفي الذي ينسب السلوك إلى الأخلاق بافتراض التطابق؛ بيد أن السلوك ليس الأخلاق، لأن السلوك فعل على الأرض والأخلاق قيمة. وناقشنا الفرق في مقال سابق، فالدولة الحداثية بمفهومها المختلف نشأت مع ثورة التنمية (development) التي سميت بالنهضة (Renaissance). فالنهضة أساسا ينبغي أن تقوم على أسس فكرية حضارية، بينما التنمية تقوم على جوانب التطور المدني، فهي احتاجت إلى المواد الأولية من مصادرها فذهبت لاستعمار مناطق.

وما يعرف من تفاصيل في هذا الأمر، فإن أساسها خال من قيم أخلاقية ما عدا قيمة النفعية التي ما زالت تحكم الحداثة وتتحكم بالسلوك حتى تبدو ثقافة مجتمع وهي لم تعد بمكارم الأخلاق، بيد أننا نجد تمردا إيجابي عليها في ظهور ردود فعل إنسانية، أو سلبية نلاحظها في عالم التشرد والجريمة ومراوغة الدولة وقوانينها.

محاولة مواءمة الحداثة الحالية مع الإسلام، مع الاحتفاظ بقوانين الحداثة، هو أمر كمواءمة حصلت سابقا بين الفلسفة اليونانية الوثنية بنظرية الفيض وبين الإسلام التوحيدي، وكانت إحدى مشوهات التفسير وظهور شريعة تكاد تشوه الإسلام ومقاصده عبر التاريخ


وربما يستنكر مستنكر أن ما يراه في الغرب مراعاة للإنسان، فإن هذا منطلقه فلسفة النفعية وضرورات استقرار الحياة لنمو المدنية، وهذا يتضح بعنصرية معاملة "الآخر" اليوم في الغرب.

الموائمة المشوهة للحضارة الفكرية

محاولة مواءمة الحداثة الحالية مع الإسلام، مع الاحتفاظ بقوانين الحداثة، هو أمر كمواءمة حصلت سابقا بين الفلسفة اليونانية الوثنية بنظرية الفيض وبين الإسلام التوحيدي، وكانت إحدى مشوهات التفسير وظهور شريعة تكاد تشوه الإسلام ومقاصده عبر التاريخ، إلى أن ظهر فكر المقاصد وهو محاولة للتخلص من القيود التي باتت مقدسة في الاجتهادات، وظهور مصطلحات تؤطر شيئا لا يؤطر بمعنى التقييد، كالفكر الإسلامي العالمي والعابر للزمكان، ولكن لم ينفضه لاستمرار مجاملة المنقول. وهنا نجد محاولة تقريب بين لا جذور الحداثة وجذور الفكر الإسلامي، وبين لا أخلاقية الحداثة الحالية والمرتكزة على النفعية، وبين منظومة قيمية أخلاقية تعتمد على الإنسان المالك للأهلية التي فُقدت مع تشويه الإسلام ونظام الحكم، فأصبح الإنسان في عالمنا بلا أهلية ومسلوب الإرادة لكل من حكم من خلال تشريع ولاية المتغلب وهيمنة المؤسسة الدينية.

أين المشكلة:

المشكلة أساسا بدأت بطريقة نقل الغرب للمدنية ومحاولة إنكار دور العرب والمسلمين فيها، فنقلها بلا ثقافة بيئتها مع مجموعة من الأكاذيب في المراجع لتثبيت هذا. المدنية تراكم للجهد البشري تنتقل وتتطور، ولا يمكن أن تكون بلا أطر أو تتطور وهي نائمة.

والحداثة كانت فكرية منذ مجيء الرسالة الإسلامية ونشوء ما نسميه اليوم بنظام الدولة القائم على القيم والشريعة، هذا النظام طور صيغ الدولة وأسس لها بشكل واضح وجدول العلوم وارتقى بها، لكن الغرب عندما أخذها؛ أخذها منزوعة من القيم المضافة إلا ما علق بها ولا يمكن التخلص منه، وهو ما جنّد في النفعية إلى تصرفات سلوكية. أما عندما انتقلت إلى الولايات المتحدة فكان عزلا آخر مع الغرب نفسه، لتتوالد سلوكيات مرتبطة بسطوة القانون وقوته وتمجيد الدولة والرضا بسيادتها، حتى وأنت تحتج على أي شيء وتعود إلى بيتك لتنام بسلام أو ترفض كل هذا وتكون في الشارع مشردا عرضة للممنوعات ومساءلة القانون في أي وقت، القانون الفصل الذي متى ما حصلت الفوضى أصبحت السلوكية الواضحة بلا قانون أو السلوك بلا إنسانية عندما يبيح لك القانون قتل أي مصدر للخطر.

نحن أمة لديها كل مقومات قيادة نهضة عالمية بلا حروب أو إسقاطات فشل الحداثة التي تحتضر؛ وليست قائمة إلا لفقدان البديل ولن تطيل عمرها حرب كونية أخرى


عزل الحداثة عن جذورها الإسلامية هو عزلها عن منظومة قيمية ونظام تكافلي حسي وعقد اجتماعي، وليس سيادة السلطة الظاهرة أو الباطنة متمثلة بأصحاب المصالح الذين سماهم لينين الرأسماليين.

كيف يمكن للحركات الإسلامية أن تتماهى مع هذا؟ لا يمكن طبعا فتقول إن الديمقراطية ليست الطريق! الحقيقة أن المشكلة ليست في الديمقراطية فهي آلية، لكن المشكلة في فهم معنى الدولة الحديثة الطوباوي عند الإسلاميين، ومزج القيم مع منافسين لا يتعاملون بها فتكون واهية من السهل فيها انتزاع السلطة من قبل أي مغامر أو مجنون.

إننا بحاجة إلى حكام ونظام ذي أهلية يفهم معنى الإسلام، ينظر إلى الأمام لا الخلف وفي سقطات التاريخ، وفتح مثاني القرآن (طياته) للبحث عن قيادة واقعنا واختيار الناس وفق معايير سليمة؛ وليس وفق معايير جعلتنا أمام العالم بموقف العبد الثري الذي يشتري له سيدا يرأف به. ونحن أمة لديها كل مقومات قيادة نهضة عالمية بلا حروب أو إسقاطات فشل الحداثة التي تحتضر؛ وليست قائمة إلا لفقدان البديل ولن تطيل عمرها حرب كونية أخرى.

رابط النشر الاصلي في العربي 21

https://arabi21.com/story/1506577/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A9-%D9%88%D8%A5%D8%B4%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%87%D9%85%D9%87%D8%A7

104 - النشوء والارتقاء في الامم والافراد

قراءة الاصــــــل عربي 21 انقر هنا من فضلك الله خلق الكون وفق قوانين ما زال العلماء يكتشفونها أو يضعون نظريات وتجرب فتفشل ليضعوا غيرها، فيثب...