نظرة الإسلام إلى الكون:
إن الكون أنشئ قضاء، والقضاء هو إرادة الإنشاء ووضع قوانين وكل ما يحتاج الوجود إليه من عملية تكوينية استمرت ست مراحل (ستة أيام) من الفتق العظيم، إلى أن اكتمل القضاء في الكون بإنشاء السماوات السبع وما فيهن من تفاصيل وقوانين وأقوات. والله موسع في الكون وتفاصيله بحركة المجرات وما داخل المجرات كحركة الشمس وما معها من كواكب، تلك الحركة الحلزونية إلى مستقر وكل ما في المجرة في فلكه، يسبح مع الحركة الكلية بوصف تلك الحركة، بنظام دقيق ومسارات مصممة بعلم الخالق البارئ، غير متصادمة أو متعارضة مع تعدد محاورها بعلم الله بما تضبطه قوانين الفيزياء المكتشفة وغير المكتشفة.
نظرة الإسلام إلى الإنسان والحياة وفق فهمي لها:
إن الله خلق البشر، ويستدل أن آدم ليس أول البشر من علم الملائكة بسلوك بشري عنيف، والملائكة لا تعلم الغيب لتستقرئ ماهية أو سلوك آدم ما لم تر نموذجا له، فكان آدم مختلفا بأمر مهم وهو منظومته العقلية، الذاكرة المعرفية ومعالجتها التي سماها الله ﷻ "العزم"، فمعالجة المعلومة وتذكرها هو الأساس المهم للآدمية كجنس بشري، والتعامل الرائع بين آدم وحواء وتناغمهما خطأ أم صوابا هو من الاستئناس البشر الآدمي بعضه لبعض، فكان إنسانا هو المفضل في خلقه على ما نعلم، ولكن هنالك من هو الأفضل مما لا نعلم.
المنظومة العقلية لم يستخدمها آدم؛ لأنه لم يعالج المعلومة، كان هذا عَرَضَ النسيان الذي تقبّل الله من أجله توبة آدم ودعاءه وندمه، فنزل الجنس البشري إلى مرتبة الاختبار لهذه المنظومة العقلية، فإن استعملها بشكل صحيح، كان الواجب محققا في عمارة الأرض وديمومة السلالة، وإن لم يستخدمها كان ما نرى من ظلم وحروب لا ترتكز لقيمة، وإنما هو جشع بشري يعود بالآدمية إلى نسخة جاوة والنياندرتال.
رسالة الإسلام:
الإسلام رسالة حملها كل الأنبياء إلى الإنسان، فكانت بمنزلة تنبيه وتكوين لمجتمع، رسالات نعرف، وبعضها ما لا نعرف، لكننا نعرف الرسالات الثلاث؛ وهي اليهودية التي كانت كخلاصة شريعة، دينا لها زمانها ومكانها وأعقبتها البشارة التي جاءت من مخلوق ليس آدميا، لكن ببويضة آدمية ليكون له جسد مناسب للأرض، هو إنسان بشّر بالرسالة الخاتمة التي تحمل مثاني الزمن والمعرفة بكتاب حمّال أوجه، يُقرأ ويستنبط منه ما يُستقرأ من متغيرات عبر العصور. أما القرآن، فقد حمل شريعة ممتدة متناغمة مع علم الله بتغييرات الزمن، لا تثبت عند حكم واحد، فهمها الأولون ونسيها الآخرون، فكان الحال كما نرى فشلا في الحياة، ولكنهم لا يستغفرون ويعيدون النظر بمنظومتهم العقلية وجهازهم المعرفي الذي ورثوه بل البعض منهم شوّه الأصل بالتفسير ليجعل له جذورا، وهنا تكمن مأساة الأمة في إصلاح واقعها المر.
الفتوحات ما بين الرسالة ومنهج العصور:
إن الله تعالى أمر الأمة بالقسط، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعدل والإحسان والتكافل، وكان أمره في كل شيء عظة ونصحا لتصويب الشطط، لكنه استحباب وليس إلغاء للاختيار؛ فالإنسان مخير في كل أمر من باب العدل؛ لأنه في اختبار لهذه المنظومة التي تشير خياراته إلى نجاحها وفشلها فهو كامل الأهلية.
الفتوحات كانت في الأساس كما لخصها ربعي بن عامر لرستم: "لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر". فالغاية هي إيصال الرسالة وإشاعة العدل بين الناس، وليس إجبارا إنما هو اختيار، لكن لا تمكين لظالم على القتال، وإنما إخضاعه وكسر شوكته وإزالة الخوف عن شعبه بفرض الجزية عليه كسلطة. لم تكن الفتوحات الإسلامية بفكرة إمبراطورية أو سلطة خليفة كسلطة أباطرة الروم أو قناصلها، ولا قادة الجيش أو الولاة هم دكتاتوريون أو بريتور، فأساس حكم الإسلام هو ولاية الأمة والشورى التي هي مفهوم واسع، مكّن اعتبار الديمقراطية كأحد آلياته لحين اختيار آلية مدنية أفضل تمثيلا للأمة.
لم يكن الدخول في الإسلام شرطا أو إجبارا، وإنما كان واجب المسلمين حماية الأديان الأخرى مهما كانت وهي بذمة رسول الله، أي لهم حق المسلمين فيما بينهم وحماية رسول الله أكبر من أية سلطة أو عصبية، وهي موجودة عرفا متأصلة في احترام الأديان الأخرى، لا يستطيع تجاوزها إلا من سفه بلا وعي بسيط.
كانت الفتوحات بهذا الشكل حتى اتخذت مناحي الملوك فأوقفها عمر بن عبد العزيز، فسعة البلاد مع نسخ قليلة من القرآن ودخول أمم إلى الإسلام، كان له أثر كبير في تشوه بعض الأفهام وتجييرها وفق الجهاز المعرفي لتلك الأمم.
لم تكن الفتوحات بفكرة الاحتلال، وإنما الإنقاذ والبناء وإعمار المكان وإبراز الطاقات من أي دين أو معتقد، فكانت مدنية لها دور كبير، قوية في معايير عصرها، وثرية فيما قدمته للبشرية بمعايير عصرنا، لكنها عندما انتهجت نظام المُلك ضعفت في المآل، وخشية الفتنة استكان الناس إلى فتح المثاني من مختصين بالعلوم والحياة المدنية، واستدعوا أحاديث الانتظار، فأضحوا قابلين للاحتلال بعجزهم. ثم لم ينشئوا منظومة فقهية تواكب العصر، وإنما تركوا الخرافة تعبث بهم كما عبثت بغيرهم، فاستعادوا المستعمر بعد أن أخرجوه، لينتظروا آخر ليخلصهم من مشاكل تخلفهم، والنتيجة عالات لا تشارك في المدنية إلا بمظهرها وكمستهلك كبير لمنتجاتها.
موقف الغرب السلبي:
الغرب يخاف الفتوحات ويقرنها بالإسلام بعقليته الإمبراطورية والعدمية، التي ظهرت في التحشيد لحروب الفرنجة وكسر الكينونة في الاحتلال الحديث، من تهيئة البيئة كمستهلك عالة، وقابل للاحتلال بتنصيب الفاشلين الذين يظنون أنهم أفضل الجميع، بينما الشعوب في استكانة وانتظار للمخلّص، وتغزوا هذه الفكرة الجهاز المعرفي للمؤمنين بالأديان، وعموم العاجزين في انتظار قوى خارجية تخلصهم من ظلم أبنائهم.
لا يُسمح لفكر إسلامي متنور مسالم بالظهور، خشية التمدد الذي انتهى عمليا مع الاتفاق في وستفاليا؛ وإن خرقته دول الاحتلال التي سلبت الثروات وخلقت مجتمعات استهلاكية، أو تفتك بها المجاعة والصراعات.
العالم بحاجة إلى الإسلام لتصويب الحياة، وهو ما لا يمكن شرحه في مقال، لكن الإسلام لن يحتاج إلى فتوحات مع التطور المدني في توعية الآدمية إلى مهمتها في الأرض، بل هنا، سيخاطب الذاكرة المعرفية لا للانتشار والرعوية. فلا مؤسسة دينية أو رجال دين في الإسلام، بل لحماية الأهلية الآدمية في القرار والاختيار، وربما نظام عالمي جديد لن يكون، وأمة رسالة الاختيار تعيش في الانتظار.