وأنا أفكر في وضع دول الخليج، قرأت عدة تقارير من جهات دولية وأفكارا شخصية ربما المشترك بينها أنها تشترك بالتالي:
* هذه التقارير تفتقد للمنطق، فهي تقول لأن قطر أو الإمارات أو السعودية مثلا تدعم فكرا دينيا أو جماعة أو توجها ما فستفشل. وهذه فرضية بلا أساس عندما يتعلق الأمر بالمال والأعمال والعلاقات الدولية، فالتحليل في التقارير ليس كلاما علميا ولهذا لم تصدقه الإنجازات لهذه البلدان ما بعد كتابة هذه التقارير.
* تركز على حجم الدولة في الخريطة الجغرافية في حين أن القرار يأتي من رجال الدولة وليس بحجم الدولة، فرجال الدولة يبنون سياستهم حتما آخذين بنظر الاعتبار حجم دولتهم ويحددون وظيفتها التي تعطيها تموضعا في النظام العالمي.
* إذن تغافلت التقارير أن حجم الدول يقاس بوظيفتها وتأثيرها في النظام العالمي وليس بالمساحة.
خطأ توجه المعايير في تقييم دول الخليج:
الدمج بين التوجه الفكري والقيمي نحو ما ذكرنا أعلاه والفاعلية السياسية متعمد لإفقاد الثقة لهذه الدولة الوظيفية أو تلك بالقيم الحامية لكينونتها؛ يريدونها أن تؤدي وظيفتها كتابع وليس كفاعل دولي عندما تقتنع بالتخلي عن الثوابت. وتدريجيا تصبح الدولة عائمة في الهواء عرضة للاضطراب فتتجه للتبعية بدل الوظيفية والتسطيح بدل التجذير وإن تقدمت مدنيا لكن في المظهر، فمن يخطط لتحجيم هذه الدول حريص أن تكون هذه الدول تشتري المدنية وتستهلكها لكن لا تستطيع صيانة هذه المدنية بكوادرها، بحكم عدد سكانها القليل والذي يمكن أن يتحول إلى نحل للمحافظة على مكتسباته بدل الاسترخاء والاعتماد على كوادر أجنبية للصيانة والتشغيل، فالأجنبي لا يؤسس لديمومة المدنية وتطورها ذاتيا.
أما حجم الدول، فلو نظرنا نظرة بسيطة وعابرة للتاريخ، نجد أن المدينة المنورة سيطرت على معظم العالم المعروف في ذاك العصر وأوروبا ولو لم يوقف عمر بن عبد العزيز الفتوحات لتمكنت منظومتها من إدارة العالم.
وفي التاريخ القريب احتلت بريطانيا شبه الجزيرة الهندية وهي تزيد عن 16 مرة بقدر مساحة بريطانيا، ناهيك عن العراق ومصر مثلا ودول الكومنويلث.
أحد التقارير الذي تنبأ بفشل قطر بالذات كتب عام 2014، نجد من الأحداث التي تلت مما هو معلن وغير معلن أن هذا التقييم لمركز دراسات عالمي ومعتبر كان تقييما يراد به إفقاد قطر الثقة بتوجهها، لكن قطر حققت نجاحات مبهرة عكس التقرير وليس أقربها إعادة الهدوء إلى دول بنجاحها كوسيط سياسي، كما أثبتت السعودية من هو المتمكن من إدارة الطاقة وحاكميتها عليها في العالم، كذلك التطور العلمي الذي يحصل في الإدارة والأعمال في الإمارات.
معنى الدولة الوظيفية:
الدولة الوظيفية مثل قطر في السياسة والاتفاقات الدولية، والإمارات في المال والأعمال، والسعودية بتحكمها في توازن الاقتصاد والطاقة العالمي من خلال النفط وقوتها النقدية والاقتصادية، والبحرين من خلال موقعها الاستراتيجي، وعُمان من خلال الدبلوماسية الهادئة فبالتالي هي تتحرك على جانب آخر من السياسة التي تكون مساعدة لوظيفة قطر، كما الكويت تتفاعل مع السعودية بوظيفتها.
الدولة الوظيفية لها قدرة هائلة على استقلال القرار لكنها تربط مهمتها بما يطلبه توازن العالم، إنها ليست بيضة القبان للتوازن العادي بين المسارات قطعا بل هي المفتاح للمسارات المغلقة.
هنالك دول واسعة المساحة والتحالفات والإمكانيات الصناعية والتجارية والعسكرية يمكن أن تأخذ دورا وظيفيا كما فعلت تركيا في حرب أوكرانيا التي تدور رحاها الآن، وكان الدور إيجابيا في تسيير الحبوب واستمرار إنتاجه والتفاهمات السياسية والعسكرية بتكامل الأدوار التي شاركت بها أيضا دول الخليج في مواضيع أخرى، كالأسرى والمحتجزين من دول أخرى أثناء حرب القرم الحالية.
وخلافا لتوقعات مراكز دراسات عالمية، فإن دول مجلس التعاون نجحت بشكل منقطع النظير في تسوية النزاعات وحل مشاكل كبيرة كمشكلة أفغانستان وأمريكا، إضافة لحسن العلاقات مع إيران والتي تصب باتجاه إيجابي للسلم العالمي واستقرار المنطقة، وتبنّيها علاقات شبكية (العلاقات مع الأضداد فتكون وسيطا ناجحا يثق به الطرفان) فتظهر مهارة سياسية في إبقاء التوازن بينها وبين الجهات المتضادة لدرجة الحرب.
وهذا يختلف عن التفكير الخطي بضد أو مع والذي تحاول دولة كالولايات المتحدة فرضه ضمن منهجها الإسبارطي رغم أنها تتبع العلاقات الشبكية بتكتيك علاقاتها. الدول الوظيفية بإمكانها أن تقول لا وأن تجبر الدول الكبرى على احترامها، وهذا له أحداث في التاريخ القريب مع السعودية والإمارات، فقد صنع المؤسسون لدول الخليج مكانها الذي لا يمكن الاستغناء عنه دوليا وكلما تعاضدت أصبح دورها أكثر متانة من خلال تنسيق وتخطيط محكم مطلوب حاليا وفي المستقبل غير البعيد.
الخلل في العلاقات:
هذه الدول الست ومعها مصر والعراق والأردن وسوريا، تشكل نبضا لقلب الأمة الذي في جوفها، وتحتاج صناعة قلب الأمة الذي يفكر لأننا في أزمة نحتاج إلى التفكير الاستراتيجي من خلال مراكز دراسات غير تقليدية أو تجتر المعلومة بل تبتدع.
في الدول غير الدول الست كانت تتفاعل خليطا من الفكرة القومية وصراع فكري مستورد من هنا وهناك، وكان العراق مثلا كدرع لدول الخليج ومتكأ معنويا إلى أن حدثت الخطيئة التي غيرت التوازنات النفسية وأضعفت دول المنطقة والدول العربية، فرغم الخلافات التي بين الدول، فقد كانت هذه الدول تلتقي بحزم وتأثير. الملك فيصل رحمه الله اتخذ قرارا ستمر ذكراه الخمسون في 17 تشرين الأول/ أكتوبر القادم، وكذلك فعل الشيخ زايد، وكذلك تكرر في حرب حزيران.
لكن دخول الكويت، هز فكرة الترابط العربي واستغلته قوات أجنبية لم تك تحلم أبدا بالدخول الرسمي إلى الخليج بحرية تامة، وهذه القوات تبقى تعمل على تثبيت نفوذها لكن لا ينبغي أن يتقاطع مع تعاون دول الخليج مع بعضها.
الظروف المتعاقبة واختلاف السرعة بين دول الخليج في النظر إلى المصلحة وأين تقع؛ جعل مجلس التعاون عرضة للتفكك نتيجة الإجراءات الأحادية التي كانت تُتخذ وفق هول الصدمة لكل منها وما تلاها بعد تبدد نفس الفريق (هذا تقديري للأمر)، وأضحى التكامل الضروري والقرار المشترك الجدي موضع تساؤل، وهذا عكس المطلوب لأنهم سيكونون عرضة للانفراد بهم، وهنا فقط يكونون ضعفاء يمكن أن يضرّوا ببعضهم، كما أن فقدان التناصح في مسائل حساسة قد يتسبب بالخطايا، في حين أن التنسيق في الطاقة مع السعودية حتى وإن عملت في الملف دولة خليجية أخرى، وهكذا بقية الملفات لضبط إيقاع فاعلية المجلس.
دول مجلس التعاون:
دول مجلس التعاون منظومة تتكامل عندما تتوسع لتشمل اتفاقية إن لم يك انضماما لدول أخرى كالعراق ومصر والأردن وسوريا، وترتبط بهذه الاتفاقية مع الدول الإسلامية المحيطة للتكامل الاستراتيجي، لكنها كمرحلة أولى سيكون من المصلحة للأمة ودول الخليج أن تعيد تنظيم مجلس التعاون، عندها ستتحكم هذه الدول بالاقتصاد العالمي ولا أبالغ إن قلت تؤثر كثيرا في السلم العالمي