الجهاز المعرفي:
الجهاز المعرفي يمثل مجموعة الأفكار وطريق التفكير ومنهج التفكير والفهم، كما أنه يرتب الأولويات ويقدم ويؤخر في المواضيع، من أجل هذا، فإن ما يصيب أي أمة من تخلف هو بسبب فشل جهازها المعرفي، كذلك النجاح والصعود بسمو الجهاز المعرفي، فإن جمد ولم يواكب الزمن، عاد الجهاز ذاته ليكون سببا في التخلف، فالحياة تتوسع في متطلبات الفكر وتتطور بمتطلبات المدنية.
كيف يفسر الجهاز المعرفي بعض المفاهيم والمصطلحات:
التمكين، غالبا ما يفهم بأنه القدرة على البقاء والتأثير وكسر شوكة الأعداء أو المخالفين مع مرور الزمن، وأن بقاء الحاكم دليل نجاحه، وهذا ليس صحيحا، فتناغم الحاكم والمحكوم وارتباطهما بعقد قبول بعضهما لبعض، هو التمكين وهو النجاح، أي إن الحياة في المجتمع وتجانسها بما يمثل كلا من الحاكم والمحكوم هو النجاح، وإن لم يستمر الحاكم بحكم الظرف أو لأي سبب.
كذلك فإن مصفوفة الفكر عادة تكون تعاملات تشبه الرياضيات، لتنتج أمرا منطقيا من تشخيص وتحديد اللوازم والتخطيط لحل أي من الأسئلة، كذلك هي قادرة على معالجة التحديات كفاعلية ضمن التخطيط والتحصين. أما الظن بأن التخطيط من الآخر قدر مقدور، وتعيين جملة من المسلّمات التي تدعم بمقولات دينية لا تدري مصدرها في حقيقة الأمر، فيخلق حالة من الاستسلام الإرادي والقبول بالإخفاق ووقف التخطيط.
وهذا الخلل أيضا من الجهاز المعرفي الذي نقل بفهم خطأ للقضاء والقدر وعلم الله، وهنا تظهر حالتان، فإما الاستهانة بالمخاطر والتحديات دون دراسة أو معطيات، بل لا أحد يفكر بها وهو يهذي بكلمات وهتافات عاطفية دون فعل، أو الاستسلام الذي ذكرناه. فلا بد إذن من دراسة واعية ومراكز دراسات ترتقي بالناس وتوجه في ذات الوقت، تضع الخطط وتثقف وتدرب.
فاعلية السلوك:
فاعلية السلوك تظهر في المجتمع وتمثل ثقافته، كذلك في الحاكم وخطواته. ادعاء الحسن من الفعل والنتيجة هو كذب على الذات، يقفل طريق اليقظة والإصلاح ليستمر السبات، وهذا بالتأكيد يعني وجوب البحث عن الحقيقة المتجددة التي لا تملك، وإنما يكون الوصول إليها هدفا وليس الغاية للفعل؛ لأن مجرد الوصول إليها تكون الأمور قد توسعت وامتدت وأضحى المطلوب أكثر حداثة، فلا امتلاك للحقيقة، ولا يوجد نهاية للعالم ما دام الإنسان يعيش عليها والقيامة لم تقم.
الفهم:
إن فهمك لما تعتقد، هو ما ينبغي أن يجسد السلوك والأهداف ثم الغايات، ففهم المتدين للدين يمثل ما فهم وليس الدين، كذلك فهم المنقول من قيم إيمانية أو إلحادية أو أي ما يمكن أن يكون معتقدا للآدمي ومخرجات تفاعل فكره، فنحن نحتاج إلى الاستنارة بالحقيقة، وليس امتلاكها والجمود عند الظن بامتلاكها؛ لأن من يظن أنه امتلك الحقيقة، فهو لن ينظر لجديد ما لم يكن منفتح الذهن، فهو يستنير بها وتنعكس على أحاسيسه وخلجات نفسه، بل عموم سلوكه وإبداعه.
منهج الراشدين وليس ما اجتهد الراشدون:
النجاح الذي حققه الراشدون؛ لأنهم كانوا يفهمون المنهج القرآني؛ فعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ الذي تفتخر الأمة بعدله ولا يختلف على هذا اثنان، اجتهد اجتهادات لو فعلها أو استحدثها في عصرنا أي متصدر في الحراك الإسلامي، لخرجت أصوات تسفهه وتكفره، بل لشنّعت عليه أنه عطل الحدود وغيّر توزيع الغنائم، وكثير من الأمور التي احتاجتها الدولة والحكم.
تلك هي الطريق الصائبة وذاك هو منهج عمر اجتهد لعصره، بينما منهج يتبع اليوم لا يسمح بالتجديد وإدارة الدولة نحو المستقبل، بل الكل كسر رقبة الأمة بالالتفات إلى الخلف، ولا يريد أن يوقف الزمن فحسب، بل أن يعيد الماضي بأحداث التاريخ ومشاكله واجتهادات رائعة في عصرها لكن لا تصلح لعصرنا، ناسين أن الله جل وعلا ذم التقليد والاتباع الأعمى، ودعا إلى إعمال المنظومة العقلية والتجديد مع الزمان والمكان وتغيراته، وقال؛ إن القرآن مثاني (طيات) افتحوها وعيشوا زمانكم، خلاصة القول: ما لم نتوقف عن هذا، فهذه الأمة لن تنهض بل ستبقى في تخلف، محتقَرة مهانة عالة على الوجود؛ لا فاعلية لها بما يجري حول العالم من تدهور للقيمة الآدمية، فمن لا ينهض بالآدمية في نفسه لا يستطيع أن يرتقي بها لغيره.
التطور المدني:
اليوم أبسط الناس ممن يستخدم التقنيات الحديثة والابتكارات والصناعات، يعيش عيشة الملوك في الماضي. علماء عصرنا ومفكروه والباحث أمام حاسوبه، يستحضر علوم الأولين والحاضرين بكبسة زر. إننا إذن أولى بالاجتهاد من التقليد أو التصديق والتسليم الأعمى بما أنتجه فقهاء وعلماء لعصرهم وفق ما حصلوا عليه، لسنا مجبرين أن نقدس رأيا لأناس حديثي الإسلام في عصر لم يكن فيه إلا أربع نسخ من القرآن معتمدة ثم تزايدت، لكن لم تصل دفعة واحدة من دفعات المطابع في عصرنا والمتاح على شبكات التواصل وبلغات متعددة.
ليس هذا يعني أن نلغي ونحدّث، بل توسيع لحاء الشجرة الطيبة من أصلها الثابت لتنتج ثمارا ولا تقف متيبسة عقيما. إن واجبنا ليس تمجيد الماضي ونصرة المظلوم في التاريخ، ونحن لا ننصر الحق في الحاضر ونظلم الناس فنظلم بظلم أبرياء بل باختراع الحدث كما نهوى، ونوسع بيئة الجهل بدل أن نقاومه وندعو للعصبيات. وقد تبرأ الرسول من جنس العصبية حتى لو كانت لحب الدين من منطلق غرائزي وانفعالي ومهين لأعظم ميزة للآدمي، هي منظومته العقلية.
إن الحياة إلى نهاية كما بدأت، والكل عائد إلى الله بلا مال ولا جاه ولا منصب ولا نصرة لذاته أو خسارة أكثر من عمله وسلامة ما توصلت إليه منظومته العقلية، ولا يحمل وزرك أحب الناس عندك وأحبهم أنت لفؤاده.