السبت، 17 يونيو 2023

65 - بنـــاء الامـــــة وبناء الدولـــــة الجـــــ الثاني ـــزء

 



    

الدولة حاجة مجتمع وأمة:

الدولة، إدارة شؤون الشعب، الشعب كان عائلة من اسر، ثم قبيلة ثم مدينة، ثم اقتضت المصالح أن تتوسع الدولة إلى مدن لتتكامل مع بعضها في الإنتاج والأعمال، فكانت دولة إمبراطورية تصب إليها موارد من الأطراف لسد حاجتها، فتأطرت متطلبات جديدة للشرعية، كبرلمانات بشكل مجلس أعيان يعطي  الشرعية لعظيم أو قيصر، وان لم تك فبنقاء الدم والحق الإلهي، والسردية أن تتنازل الشعوب عن حرياتها وتعتاد الأجيال وتنسى أنها تنازلات، إلى أن أتى الإسلام بمبدأ البيعة المنطلق من مفهوم الشورى، والبيعة عقد بين الحاكم والمحكوم، وله حدود رأيناها في تكرار البيعة لرسول الله ﷺ مع تغير الظرف والحال وليس هنالك بيعة مطلقة إذ لابد أن يعود للشعب في اخذ ما يسد الموقف من شرعية، ومثال ذلك ما حدث في معارك بدر واحد والخندق والعقبة وغيرها من يراجع السيرة بتمعن يدركها، وانتقلت إلى الراشدين، إلى أن تحولت إلى الملكية في العهود التالية وفي الغرب عندما انقلبوا على الملوك تحولت إلى الدولة القومية، ثم دولة الحداثة التي تمتلك الإنسان برضاه ووفق نمط الحياة الذي يطلبه الواقع والقانون وهنا نرى أن الدولة باتت حاجة واقع مع الحاجة الاجتماعية بتعاظم الحاجات وتفرع العلوم والمعاملات، وتعدد الكيانات وتباين الراي والفكرة فلابد من موجه لكل هذه النغمات كيلا تكون نشازا.

إن بناء الأمة مهم جدا لتكون الدولة، فلا تتبنى الدول بالمستعارات الاصطلاحية الرنانة كالفسيفساء ودولة المكونات، فالمكونات التي لا تشكل أمة لا تستطيع بناء دولة، بل ستبقى كيان هلامي يستعد للتشظي والهروب من ضغوطات القوة والنفوذ، ومن يتعامل مع هكذا واقع لا ينبغي أن يعمل بشروطه وإنما بإقناع الكل بإصلاح شروط تفكك وان بدت الناس مجتمعة، فمن يجتمع هم باحثون عن مصالح آنية لا تنتج مدنية ولا عمران، ولا ثبات لدولة الإنسان.

هنالك سرديات غير هذه لحراك التأسيس للدولة بيد أنها بمعنى واحد في كل الأحوال، فالدولة دوما تحدّث كما وضعنا من سردية، فهي بمحتوى الفكرة والحاجة المستجدة أوجدت الحداثة في أوربا، وكانت الدولة المسيطرة على كل امر بمفهوم الوكيل المطلق الذي اخذ بعض حقوق المجتمع مباشرة واخذ الأخرى لسيادة القانون فكانت الأمور بيد السلطة والسلطة للدولة، لكننا هنا سنتحدث عن بناء الدولة، عن ضمان الأمن والاستقرار والنظام، أو نمط الحياة الهادئ ما امكن، وعن قوة مفوضة بالقانون وتطبق القانون فإما أن تنجح أو تتنحى لغيرها في انتخابات، هي كالبيعة لكن محددة بزمن أما البيعة فهي امر محدد بالشروط العقدية، والتي لابد عند تحديث العمل بها أن تحدد بحد اعلى للزمن كأحد أطرها وتديره آلياتها.

بناء الدول وبناء الأمم:

كيانات بنيت بلا تاريخ كالكيان الصهيوني، وكيانات وضعت في قالب الديمقراطية ولم تراعي بناء الأمة كجنوب السودان المتكون من مجموعات قبلية زجت في نظام ليس لها مقوماته، فأما الكيان الصهيوني فهو دعا إلى مشترك هو الدين لكن الدين اليهودي شريعته لا تحدّث فهي شريعة دين وليس دولة، فكان عامل الترابط هو الإعلام والانطباعات الجاهزة المستخدمة الدين كعصبية، وفي ذات الوقت الخوف من المحيط كأداة لتجمع غريزي ينفرط بالاستقرار إن حصل.

كذلك دول فككت وتشظى نسيجها كمجتمع، مثل الدول التي تعرضت للاحتلال أو قامت بها حروب داخلية كالعراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها ممن هو مهدد بها، هذه الدول بحاجة إلى بناء نفسها كأمة فما نراه من تشكيل لبقايا إدارة تاريخية، أو سلطة لا يشكل حقيقة معنى الدولة التي تحفظ الأمن والاستقرار وكرامة الإنسان بما يعتقد أو التصالح مع كل هذا ليكون مقبولا عند الجميع بالعقلية والنفسية وليس مجاملة تخفي الاستنكار والاحتقار.

إعادة بناء الدولة: هو مشروع مهم يحتاج لأناس تفكر وإعلام حي فاهم ومدرب ومقتنع بعمله، وكلفة عالية مادية ومعنوية لتعديل الشخصية في هذه البلاد أي العقلية ومنظومة الجهاز المعرفي والنفسية، وهذا يعني التعامل مع المختلف كأمر طبيعي لا ينقص من كينونته شيء ولا يسمح بمس كرامته.

ماهي احتياجات بناء الدولة:

صراع الشرعيات هو اهم ما يواجه إنشاء الدولة، فشرعية سابقة، وقوى تجد نفسها أنها أحق بالحكم وشرعية قبلية وشعبية وثورية، وشرعية دينية أو مذهبية، وشرعية دولية تجد أنها تدافع عن نفسها من خطر قيام دولة، وشرعية قوة خارجية تريد أن تبني الدولة على مزاجها ووفق مصالحها، وشرعية ناس اتو من خلال الحراك كأدوات لكن أصبح لهم وجود وفق تخطيط الأحداث وتشوهات المتضادات، فكيف سنخرج من هذه الشرعيات بشرعية الدولة.... من المؤكد أن الحاجة للكثير منها ما يلي:

·      قيادة على قدر عال من المسئولية لا تبحث عن مصالح ضيقة أو خالية من الرؤية أو متشبعة بحب السلطة وترفض الآخر سواء كانت إسلامية أو علمانية أو أي تسمية أخرى، وإنما تثبط التحديات لكيلا تنشغل بها أو تعتبرها همها الأول.

·      قيادات قادرة للتحدث مع بعضها والوصول إلى حالة من بناء الأمة وثقافتها بعيدا عن منظومة تنمية التخلف والإقصاء وقادرة على التعاون لبناء الأمة؛ لا تختلف على الأولويات أو العائدات.

·      أن تكون هنالك رؤية وبرامج، لا تقارع الموجود أو المهزوم وإنما تطرح نفسها وتنشئ إنجازاتها.

·      ضرورة وقف الصراع، وجعل المعيار هو الإنجاز في طريق بناء الدولة وتراص المجتمع وليس البقاء في السلطة واستحصال النفوذ والمكاسب والمال، أو استخدام السلطة لفرض الراي.

·      الدولة ستحتاج إلى قوة جيش وشرطة كبيرة تحمل رؤيتها، لكن ضمن خطة السلم والحرب كالبناء والاستقرار والمصالح، وهذا يحتاج تربية ومنظومة تعليم خاصة.

النظم ديمقراطية، دكتاتورية، وراثية، كلها نظم لها مساوئها ومحاسنها، الغرض هو كيف يحصل الاستقرار وبناء الدولة فهي مسائل مدنية ليست أيدولوجيات ولا يمكن تحويلها إلى أيدولوجيات، إنما بناء الدولة يحتاج إلى عقليات استشارية نظيفة، وليس إلى هياكل منقولة عن تجارب أخرى تحمل الفساد وليست مهتمة لبناء الدولة وكذلك قوالب البرلمان والسلطة إلى لجان الإغاثة أو المؤسسات الدولية إلى كل ما هو في طريق بناء لن يكتمل أبدا بغير بناء الأمة وثقافتها وترابط أفرادها، لا تذكر فيها مكونات واختلافات وان كانت محترمة ضمنا لان ذكرها اعتراف بالتفكك وليس البناء.

رابط العــــــــربي 21

اضغط هنا

الفيسبوك




الجمعة، 9 يونيو 2023

64 - بناء الامة وبناء الدولة الجــــــــــــــ الاول ـــــــــــــزء

 



بنــــ الامــــــــــةــــــاء

اضحى لزاما تعريف المعاني والأفكار في زمن أصبح فيه عرض الحلول وكأنه راي مقدس، لا يتحاور الناس وإنما كل يرى أن ما اقترحه متكاملا رغم انه بلا دراسة وربما ليس في اختصاصه، ولا آليات أو منفدين هو لا شك استنارة يظنها البعض في طرح يؤيده البعض الآخر ممن يقلب صفحة لينسى ما قرأ.

هذا الموضوع مهم جدا بعد تفكك الأمة عبر القرون، وتمزق الدولة في كل تعاريفها، ونحن نشاهد الأثر الواضح في امتنا ما بين التقسيمات القومية والتقسيمات الطائفية والصراع غير المبرر بتعالي رفض الحراك الفكري والتعدد والتنوع الإيجابي والخلط الملتبس بين معنى الدولة والأمة ونقض غزل الاثنين بالجهل ومنظومة تنمية التخلف التي جعلتنا مفضوحين فعلا بكم التخلف المدني والانحدار الحضاري بعد أن سترنا ردحا بورقة التوت التي للأسف كانت دكتاتورية وطغيان ومصادرة لأهلية الشعب وحقوق الأنسان.

إن أي إنسان يمتلك القناعة انه يملك الحقيقة، فهو في الواقع يمتلك حقيقة إدراكه التي هي ادراك نسبي للبيئة الإنسانية المتعددة المساقط على ارض الواقع، لكن هذا لا يعني انه خطأ أو يعطيه الصواب بالمطلق، فالتفكير السليم هو الذي تدعمه سنن الكون ويستطيع التفاعل مع التعدد الفكري والدرجات في المدنية من خلال إيجاد واقع تعايش طبيعي وليس تكيف مضغوط، فالإنسانية لها واجبات رئيسة مما نراه من مجمل مخرجات المنظومات الإنسانية، وهي تشترك بها كقيمة ترتفع وتنخفض وفقها ألا وهي الإعمار والكرامة الإنسانية أو الآدمية وفق التعبير القرآني.

معظم من ينادي بالأيدولوجيات ويقدسها سواء المنسوبة للدين أو الأفكار الأرضية الشائعة تجده عند تطبيقها يفرغها، لتتحول بشكل وآخر إلى الاستبداد، لأنها لم تتجذر في الواقع كبذرة وإنما أضحت شجرة هرمة في الخيال لا تجد وسيلة لغرسها في الواقع إلا بخيال معتنقيها، وان مظاهر اتباعها في الواقع تعاني من انفصام بين الفكرة والتطبيق إلى أن تصبح الفكرة مجرد عادات أو تقاليد طقوس لها زمانها ومكانها وتنتهي بمغادرة هذا الزمان والمكان.

حتى الإسلام وهو المتميز عن الأديان بشريعته ذات المثاني، وثقافة مجتمع لا تقتضي أن يكون كله مسلما أو مؤمنا باي دين يعيش اتباعه كغيره هذا الانفصام لان من يدعو إليه لا يسمع ولا يقرأ أي محاولة لتجديد الخطاب واستقراء الواقع لاستنباط من المثاني واغرق في الرعوية أو مؤسسة دينية أصلا لاوجود لها في الإسلام، وإنما يعيشون في تقديس للماضي وبكل إيجابيات أضحت تاريخ، أو سلبيات مازالت متفاعلة تهدر طاقات الناس وتعيق اتحادهم أو فهمهم لصحيح الرسالة، التي هي رسالة لهذا الجيل كما هي رسالة لأجدادهم لكن منظومتهم العقلية استعمرت بالخرافات والخوارق واستحالة ادراك القدوات التاريخية أو الوصول إلى مكانتهم وعلمهم بمنطق محبط.

أي عقيدة أو فكر لا يمكن أن يستمر في قيادة المجتمع مالم يحوي أدوات تحديثه، والإسلام فيه أدوات التحديث لكنها أهملت بل أصبح الحديث عنها منكرا عند الغالب من المسلمين أنفسهم.

بناء الأمة:

الأمة ما تميزت بثقافة ومنهج معين وتجانس وتماهي رغم التعدد والتنوع، هذا ما اعرفه بها في عصرنا الحديث وواقعنا ، وان كان تعريف الأمة ممكن أن ينطبق على شخص واحد كنبي الله إبراهيم u فهو لو دققنا فانه ينطبق عليه تعريف الأمة الذي عرفناه، والأمة شعوب متعددة أو شعب واحد، والثقافة الاجتماعية مهمة في هذا حيث تجتمع عليها الأمم وان كانت متعددة الأعراق والعقائد، لكنها متجانسة في القبول لبعضها معاضدة متصالحة مع نفسها يجمعها السلوك الظاهر لغيرها وان كانت خصوصيات في الطقوس والملبس والمأكل لكل فرد أو مجموعة فيها، تتقدم إلى المجتمع من خلال أعرافها الخاصة لتصب في المنتج العام لها، فهي علاقة فكرية مدنية متصالحة منتجة متعاونة، أما إن لم تك منسجمة حتى لو كانت في ارض واحدة وتحت حكم واحد فهي ليست بأمة وإنما أطياف قابلة للصراع والفتنة والانعزال عن بعضها، فلا مصلحة تربطها بجمعها إن لم تك خصوصياتها الداخلية مفهومة وتجد مشاركة وتعضيد وحماية من المجموع، ويساعد في هذا البناء التصور المنقول للأجيال مالم يمزقه الجهل والخوف على الرعوية من تبديل المعتقدات وهذا سيجعل البعض يخلق حواجز مع أبناء الأمة وتتطور للكراهية والانعزال وفقدان الانتماء وربما تتولد حالة من الكراهية مؤذية للحياة المدنية.

بناء الأمة هو بناء تكاملي باحترام التعدد والقبول بقرارات المختلف التي بدورها تتفهم التنوع والاختلاف بالمشاركة والخبرة، وان لا تجري أي توسيع لمتطلبات الرعوية أو التميز والانا بشكل مبالغ فيه، يجعل هذا الجزء صغر ام كبر وكأنه قطعة ميكانو متخلخلة لا ينتقل من خلالها السائل اللمفاوي للحياة في الأمة، حالة انتماء عقلية وعاطفية إذن ترسخ في التربية البيتية وتقدس في دور العبادة والإرشاد والندوات والاحتفالات والمشاركة بنمط جامع أو مقبول يميز الأمة ككل عن طريق الإفهام والفاعلية المشتركة والاندماج والإعلام ووضع مشتركات في الآداب والفنون.

عندما نتحدث عن الأمة فإننا نتحدث عن محتوى مهم لإقامة الدولة وبغيرها قد تكون هياكل دولة بيد أنها سلطات، وربما من المتعارف عليه أن نتجه بتفكيرنا إلى الحكام عندما نتحدث عن الدولة، والى العقيدة عندما نتحدث عن الأمة، أو نمط حياة يتضح في الغرب، ويبدو عندنا في العادات والتقاليد التي هي عماد المظهر الثقافي، لكن الحقيقة أن الأمة من الفرد والفرد من الأمة هذه العلاقة التي تشكل المعنى الرصين مع كل ما ذكر من تفاصيل فكرية أو عقدية، الأمر يبدو معقدا في الوصف لكنه يفتح مجراه عمليا مع ما سنتحدث عنه في الجزء الثاني حول الدولة.

رابط عـــربـ21ـــي

https://arabi21.com/story/1517716/%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A9


السبت، 3 يونيو 2023

63 - اطر الافكـــــار لبنــــــــاء المجتمــــــــــــــع

 


المتشابه والمناسب

السيارة كلمة تطلق على أصناف وأنواع وأحجام، فهي ليست بمدلول واحد، كذلك هي ليست سواء في عصر واحد ولا بمكان واحد، فهي ابتكار مدني، لكل بلد له في صناعتها براءة اختراع ربما لكل جزء منها، كذلك السياسة فهي مدنية الطابع وهي سياسات، والنظم تسير في ذات المعيار، فعندما أركب سيارة موديل 1960 وأجدها مريحة، قد أفضّل نوعها لكن من الخطأ أن أقول إني لن أركب إلا تلك السيارة، وأن تحديثها جريمة لا تغتفر؛ أما أن استورد سيارة صُنعت للمناطق الباردة وأنا في منطقة حارة، فهذا يعني أني لن أستخدمها إلا لبضع كيلومترات، فإن كنت أريد صناعتي أن تعمّ العالم فلا بد أن أضعها بشكل مضمون ومواصفات تصلح للعالم ككل، بحيث يصل كل إلى هدفه وهو مرتاح والسيارة آمنة.

إن الإدارة والسياسة هي مسائل تتطور بتراكم الجهد البشري، والناتج الفكري يتوسع ليحتضن هذا التطور، ولطالما أخطأت البشرية بصنع الفكرة بقالب ما ثم تريد أن يحجّم الشعب نفسه ليتماهى وقالبها، وهذا لا يمكن مع أساس خلق الإنسان بمنظومة عقلية بلا حدود ضمن الوظيفة الكونية.

من الخطأ التصور أننا نقود الناس باستثارة الغرائز ونفاخر بأن لدينا أتباعا ومؤيدين بالملايين، ذلك أننا لم نقد منظومة الإنسان العقلية، وإنما قدنا نسخة مفرغة من الآدمية عندما جمدنا التفكير أو جعلناه مستعمرا لغريزة ما، ولا يختلف الأمر إن استغلت حاجاته لاستعباد نفسه التي لا يمكن أن توصف بالحياة ما لم تكن حرة.

المفاهيم

الناس خلقت مختلفة كبصمة الأصبع، لكنها تلتقي من أجل الأهداف وتحب التجمع؛ لذا كانت إنسانا، لكن متلازمة الاستبداد التي تنطلق من الأنا، تجعلنا نرى بوضوح أن أكثر حالات قتل الإنسان وقعا، ليست موته نتيجة تمرده، وإنما ذلك الذي يُترك ليعيش فاقدا للأهلية أو معطلة منظومته العقلية؛ إما بخوفها من التفكير أو أن ذلك ناتج عن التفريغ، كاستعمارها بغرائز كالخوف المُرافق لحب البقاء، أو التردي النفسي بغريزة التملك والنوع؛ هذا عندما لا يستطيع القادر على فرض إرادته بتمكنه من إيذاء الآخرين من الضغط على الناس ليكونوا مثله شكلا، لكنهم فارغون مضمونا. ولعلني مثلت هذا سابقا بفاعلية فايروس طروادة على الملفات، عندما يحوّلها كلها إلى شكل واحد لا يفتح وفارغ.

إن أخطر المفاهيم هي المفاهيم المشوهة عن أصل صائب؛ لأنها تفقد القيم الإنسانية والمتانة العقلية، وتبقي وسائل دفاعها التي تتخذ شكلا خاليا من الإنسانية والعقلانية التي يتصف بها الفكر الرصين. الفكر ينبغي أن ينعكس على السلوك، والسلوك الحسن ليس أساسه دوما فكر متماسك، وإنما قد يكون من ضرورات عقد اجتماعي تطلبه أنماط حياة معينة، تتعطل إن لم يك السلوك راقيا وإنسانيا.

المفاهيم والأفكار ليست ملموسة وهي في النظرية جميلة دوما، لكن نزولها إلى الواقع يتطلب فهما وتشبعا بالفكرة ومعايير أداء تحكمها، أي هنالك قانون وتعليم مستمر ينطلق من الواقع وليس من الفكرة المجردة، فالفكرة الأساسية نظريا سليمة، لكن عند تعاملها مع الواقع ستكون أمرا تطبيقيا له قواعد علمية.

لا بد إذن من تحليل الظاهر من استقراء الواقع، وليس استنباطا من تجربة نجحت في زمان آخر أو مكان آخر أو تاريخ آخر وثقافة أخرى، فالفكر يحتاج ثباتا عقديا، لكن المدنية إنسانية وتراكم للجهد البشري يمكن أن يتحرك بلا حدود، تستدعيه الحاجة إليه مع بعض التعديلات، كما ضربنا المثل بالسيارة؛ هي السيارة، لكن في المناطق الباردة تحتاج نظام تبريد مختلف، فالمسألة ليست بتعدد النظريات، وإنما بفهم الحراك التاريخي والتطور المدني للواقع.

النموذج

أود التركيز على الإخفاق التصوري؛ فتصور أن النموذج الناجح قبل ألف عام أو يزيد هو النموذج المطلوب تطبيقه حرفيا، هذا خطأ قاتل، التصور أن المجتمع جاهز لاستئناف تلك الحياة نوع من الهذيان، التصور أن الحاكم يبقى مدى الحياة وطاعته من طاعة الله. هذا تخلف وحجر على الأهلية والعقلية السليمة.. إذن لا بد من صنع نموذج "غير مقدس" في الواقع اليوم، وهذا النموذج قابل للتعديل والمراجعة والتراجع والتقدم، ولا يهتم أو يعتبر المنقول من الأفهام التي فرضتها تشوهات التاريخ أو اجتهادات الأولين، حتى لو كانوا من القريبين المقربين لعصر الرسالة.

فنحن بالتأكيد نريد منهجهم لأنهم فاهمون ومجتهدون لما يناسب عصرهم، ولكننا لا نريد اجتهادهم هذا وكأنه مقدس كالقرآن، فلا بد والحالة هذه وضع ما نراه يناسب الواقع، وفق خطوات منطقية إصلاحية وتعديلات على النموذج، وما تثريه التجربة إلى أن نصل إلى النموذج الذي نعرضه على العالم للعدل والبناء وخلافة الإنسان للأرض، بآليات قابلة لتطوير النموذج وتحويره بما بتعامل مع الزمكان؛ أي يمكن أن يطبق في منطقتنا مثلا، وذات النموذج يحور بآلياته المكتشفة ليستفيد منه أناس في أوروبا أو اليابان، كنظام مدني يتعامل مع الإنسان كأساس وجودي وليس كماكينة أو روبوت إنتاج يركض ولا يستطيع التوقف، ويمشي وفق قوانين صارمة لكي يبقى نمط الحياة سليما.

فكون الفكرة هي الحل، يعني أنها يمكن أن تنتج آليات متعددة لأزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة؛ أي تتحرك هي باتجاه الزمن ولا نعيد الزمن ليناسب الفكرة، فالزمن مخلوق لا يعود والإنسان يمتحن بمنظومته العقلية التي إن جمدت فشلت.

إن النماذج الناجحة تختلف عن التجارب، فالنماذج هي تجارب ناجحة عدلت آلياتها وحوت آليات تطويرها ضمن منهجها. والإصلاح عملية منهجية مستمرة، فهي ليست للنقل كما هي، وإنما كمنهج فقط. نحتاج منظومات عقلية بها مرونة وليس لِينا ولا صلادة، ونحن كأمة انتقدت قيمها والتقليد الأعمى للماضي أو العيش فيه ذهنيا، وإنما أمرنا أن نعمر الأرض وننمي السلالة، لكننا نلاحظ أن الفهم للإسلام وكأنه أتى للماضي ومنه وليس أنه صالح لكل زمان ومكان، فيريدون نقل الواقع إلى الماضي ويستحضرونه بسلبياته، ناسين الفاعلية العقلية.

فالعيش في الماضي يخالف فطرة الإنسان ويفقده ميزته العقلية، ويتحول بذلك إلى مخلوق غريزي بعيد عن الآدمية ويهلك الحرث والنسل؛ لأن عقليته عدمية تتعامل مع الغريزة لا مع منظومة العقل، وهو يظن كل الظن أنه يفعل الصواب، فهو في واقع لا يناسب نفسيته، فيصبح كفايروس طروادة يعمل لأن تشبهه كل الملفات وتوصله مباشرة بسلبيات لا واقع لها في صناعة الحياة، بل هي ضد فكرة رسالة الإسلام نفسه.
نشر في العربي 21

السبت، 27 مايو 2023

62 - التمكين عند جالوت والمتفرعنين

 



الفراعنة والمتفرعنون، أناس قد تعجبك شعاراتهم وكلامهم، بيد أنهم إن تمكّنوا أفسدوا وأهلكوا الحرث والنسل، أقصوا الجميع ولا يتعاونون في البناء بأكثر من الكلام المبهرج. ولقد رأينا في واقعنا رؤية العين، من أجل هذا سنتحدث عن النفس الفرعونية في المستضعفين الذين إن تمكنوا تفرعنوا وما انفكوا متذمرين يرفعون الشعارات ويحطون الفعل.

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" (البقرة: 246).

* حالة التذمر، بل طلب التغيير بصوت عال وكأنهم في أفضل حالات الجهوزية للصلاح، فما بالهم يبقون تحت واقع لا يريدونه ويرونه نموذج للفساد؟!

* يريدون قيادة معززة للبدء بالتغيير.

* أمتأكدون أنكم مؤمنون بما تقولون وتدعون؟

* الجواب نعم، كيف نرى هذا الظلم والتردي ولا نغيره؟

من الفساد في الأرض عند التمكين إلى الإثارة والكلام والشعارات في مجتمعهم وهم غير متمكنين.. لماذا لا نفعل كذا وكذا، أنت أيها المصلح لماذا لا تقودنا لهذا الأمر وذاك؟ أتفعلون هذا حقا؟ الجواب الجاهز نحن لها؛ بل يشخّصون مواطن الضعف والنقاط الواجبة الإصلاح وما ينبغي أن يكون، ولكن وفق ما يشتهون وليس وفق الممكن والمتاح، ويسبق كلامهم (المفروض)..

وعندما يتطلب منهم المواقف وتصبح الأمور جدية تطلب من الداعين بصوت عالٍ التضحية، يتحجج الكثرة وأتباع المصالح ومن يريدون الزعامة والسلطة، وكانوا يتوقعون أنهم هم من سيختارهم النبي، فهم أصحاب النفوذ والمال والمكانة الاجتماعية. فكيف يختار لهم قائدا فقيرا لا عزوة له أو شخص يطلب منهم الاجتماع عليه؟ هكذا فعل بنو إسرائيل وهكذا نفعل نحن، فالناس سيتوجهون إلى عيوب المصلحين لا يهمهم المنطق ولا البرهان، بل تجدهم أول من يبتعد عن مسيرة الإصلاح، ويبقى مع المصلحين بعض المتأثرين بضرورة الإصلاح بمراحل متعددة من الإيمان، فيتساقطون في الاختبار.

والاختبارات أشار لها القرآن رمزا، والرموز تمثل الحاجة إلى الأشياء والضروريات، وغيرها مما يمكن الصبر عليه والاستغناء عنه، أو الاكتفاء بقدر الحاجة إليه، أُعد الناس وتكونت الأحزاب ونُظر لمن طال نضاله عند المناضلين، ومن ظهرت علامة السجود عليه عند المؤمنين، ومن تحمّل الجوع وما زالت عليه علامات السجن والغربة عند العاملين، لكن هل هؤلاء هم الصالحون؟

1- مع بداية المسيرة يأتي الجاه والمنصب، فمنهم من يغادر مسيرة طالوت إلى الجاه والمنصب حتى لو كان جالوت. وهنا تنتصر غريزة حب السيادة على ما طلب من مواجهة لجالوت.

2- تبدأ خطورة العمل والمواجهة للظروف القاسية وحرارة الواقع وجفاف وشظف العيش، فسيتوجه القسم الآخر إلى البيوت حيث الظل والأكل وبئر الماء. وهنا تسيطر غريزة حب البقاء على قيم تتطلب التضحية والعطاء، واحتمال فقدان النفس والمال في سبيل الإصلاح.

3- سيجد البعض أن المال أمامه سائب بيديه وهو من يقرر أمره، فيستطيب الأمر وتنهض غريزة حب التملك لتقضي على الأمانة لديه، فتحتضر القيم والمبادئ أمام الشهوات والرغبات.

4- ثم تأتي موازنة الحاجات التي أشار لها القرآن بالنهر، نعم أمامك نهر جار تخوض به، لكنه ممنوع عنك أن تفعل به ما تشاء، اللهم إلا إن اضطرت لكي تبقى على قيد الحياة، فلا بأس أن تغرف بيدك غرفة لتستمر.

ثلاثة نماذج لا ينبغي بقاؤهم كمتصدرين للإصلاح؛ لأنهم عناصر تثبيط ومشاريع فساد، والمداراة عليهم هي من معالم الفشل وتشييد صروح الفساد، هكذا قالت آيات سورة البقرة 246-248.

المثالية ليست حالة متوقعة:

النموذج القرآني يقول؛ إن هنالك ثلة ستجتاز كل هذا الامتحان مخلصة مضحية معطاءة، لكن عندما تأتي للمواجهة والشر، ستواجه هذه الثلة المؤمنة المصفاة من بينها من يثبطها. إن الفساد طاغ قاهر متجبر لا يمكن القضاء عليه أو مواجهته، والأفضل أن نسكت عليه، وأن نساومه، اسرق لكن ابنِ قليلا، لا تأكل كل الحقوق، لا تهرب بكل المال، لا تفسد كثيرا في الأرض، وإنما دع متنفسا للناس كيلا ينفجروا من شدة الظلم والفساد، ويبقى آخرون يصرّون على الإصلاح.

إن من سيواجه الفساد والظلم ليس من أصر على المطاولة، ولا من أصابه الإحباط من هول ما يرى، وإنما المنقذ من لا ينظر إليه أصلا؛ فتى صغير مثّله النموذج القرآني لا يحمل سيفا ولا صولجانا، وإنما الشباب الواعي الواثق بنفسه المتسلح بإيمان حقيقي والعلم والأناة، يعلم ما يريد ومتى يتحرك، هكذا كان داوود عليه السلام من نفض مقلاعه لينهي الجدل وتستقر الأمور.

إننا لن نواجه الفراعنة إلا بموسى وهارون، ولن نواجه جالوت إلا بداوود، وليس بالفرعون الذي داخلنا ولا بجالوت الذي يظهر فينا؛ إن تمكنا فحكم الفراعنة وجالوت هو هيمنة الظلم والفساد؛ لا بد أن نطرده من داخلنا وننقي أنفسنا من جالوت وفرعون لكي نسير مسيرة موسى ونحسم ظلم واستبداد جالوت، فلن يواجه فرعون فرعونا إلا ليكون محله، ولن يواجه جالوت جالوتا إلا ليكون باستبداده.

ولا بد أن نتأكد أننا نعبر النهر ولا نشرب، وأن نقول إن الصبر مفتاح الفرج والصبر ليس الاستكانة، وإنما الصمود على الحق وطلب العدل، فليست النفوس تحب المواجهة رغبة، وإنما دوما اضطرار عن خير الناس "وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم"، وفي كل الحالات وكل الأزمان يصرح القرآن بحقيقة أن الله يدفع الظلم بالحق وليس بظلم مثله، وإن حصل فهو امتداد للظلم وصراع بين الفراعة وجالوت وشبيهه؛ لأن الحفاظ على حق الاختيار بالعقيدة وسلامة الضروريات، هي بوجود المؤمنين الذين لا يسقطون بالاختبار: "وَلَولَا دَفعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعضَهُم بِبَعض لَّهُدِّمَت صَوَ ٰ⁠مِعُ وَبِیَع وَصَلَوَ ٰ⁠ات وَمَسَـٰجِدُ یُذكَرُ فِیهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِیرا وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ" (الحج: ٣٨-٤٠).

لننظر كيف قدم الله جل وعلا الصوامع، وهي مناطق عبادة عامة، والبِيَع وهي للمسيحيين، وجعل المساجد آخرها، فالمسلم مكلف بالدفاع عن حق المعتقد ومكان العبادة لغير المسلم قبل المسلم.

الإسلام لا يقبل الانحراف، وأي انحراف مكشوف بالأفعال والسلوك، وتمكينه ليس تسلطا ولا جبروتا، ويعبر عنه من فهمه، والاهتداء به لا يكون إلا للمتقين "ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين".

الجمعة، 12 مايو 2023

61 -- مـــــــارد الطغيـــــــان

 




CC0
الطغيان منهج

في منظومة تنمية التخلف التي نحن بيئتها، في داخل كل منّا مارد طغيان رهيب ينطلق إلى الطغيان عندما يجد له تمكينا، فحبنا للظلم هو منهج عرفه الجهاز المعرفي كتطبيق للتمكين، فكلنا يحاول أن يقوم بعمل الفايروس المختلط؛ من فايروس حصان طروادة والديدان عندما يتمكن من جهاز الحاسوب ليحوّل كل الملفات إلى نوع واحد لا يقرأ ولا يفهم، هو هذا تماما ما يُحدثه اختصار الأفكار العظيمة بجزئية فكرية؛ سيان تشوه فكري أو مصلحة شخصية أو معاناة في مجتمع يراد لها حل، ولكن بلا مشروع يحمل الحل أو تضحيات من أجل الحل، فتجد الضبابية هذه لنكون كقطيع أيل ضخم بعدده لكن لا صلة بين أيل وأيل حقيقية.

في مجتمع كهذا تُرْكَبُ القيم ولا تُحْمَل، لأنها ليست للتبني فالغاية تافهة وليس الفكر؛ تمثل حالة الفوضى غير المسيطر عليها فتسيطر هي على شخصية الأفراد وإن تباينت تلك المحتويات للناس فهي تبدو متشابهة لكن محتوياتها معطوبة. سيقول البعض إن الطغاة نصّبهم الاحتلال، نعم هم استثمروا في هذا الخلل المنهجي ويقاومون أي خروج عنه ولو جزئيا بكل وسيلة إن تماثل للشفاء أحد الحكّام وميّز بين الخط الرفيع الذي يفصل الحزم والطغيان، لا أدري صواب تقييمي كباحث ولكن ما يحضرنا كنموذج لتلك الحرب بين الفايروس ومضاد الفايروس هو الصراع المتخفي بين الغرب وأرودغان، والواسطة المحاربة له هي التفاهة والسطحية بلا رؤية أو هدف غير السلطة، وإلا الطغاة لم يُستوردوا، ولم يكونوا قبل طغيانهم إلا أناسا بسطاء في مظهرهم وربما في طروحاتهم لكن يتحرر المارد عند التمكين وعندما يفرك الإبريق كفوف المصفقين وحناجر المنافقين.

المضاد الملوث:

عندما نتحدث عن الجهاز المعرفي فإننا نتحدث عن أجهزة متداخلة في الحقيقة، فأفكار كثيرة نُقلت للمنطقة لغايات متعددة، ولم تنقل كاملة كنظم، ففُهمت من عامة الناس بسطحية الانطباع والمظهر، لم تدقَق ولم تراجَع وإنما يُحكم بها، وبالتالي ستكون ملايين الأفهام معايير للاختلاف، وقد تتطابق جزئيا لكن لا تتطابق مع الباحثين بعمق وإنما بسطحية التوصيف كما بسطحية التشخيص، لهذا عندما فسح المجال في الميديا نجد أن الناس يتهافتون بالتأييد للكلام السطحي المنقطع، الذي يثبّت القناعات السطحية عند القارئ ولا يكلفه جهدا في الفهم والعمل وإنما القناعة بالتخلف وأن النهضة صعبة بل مستحيلة "لان الشعب متخلف ولا يريد أن يعمل".

هذه القناعة عند الكثرة، فمن هو الشعب ومن هو الذي يمكن أن ينهض به؟ لا جواب في هذا الجو السفسطائي بلا عقلية راجحة أو نفسية تستطيب لها، تقطر تفاهة، يقتنع بأنه على حق وغيره الباطل، عقلية تولد رفض الإيجابية من التنوع وتقليص الفوارق عندما نناقش أنفسنا ونجعل التنوع في المدنية وليس بأفكار مقولبة غير قابلة للمناقشة أو التطبيق العملي، سواء كانت بواجهة إسلامية أو علمانية أو أي من الأشكال المطروحة والمسميات. إذن الأدوات نفسها معطوبة، لا تحاول التعاون للوصول إلى الهدف بل تمنع بعضها من الوصول إليه حتى في فهم التنافس المهني، ولطالما حُيدت عبقريات وكفاءات من أناس أدعياء خصوصا وأن الكفاءات أعجز الناس في الدفاع عن نفسها ما لم تُدعم بتمكين.

إن الأفكار نشأت وتطورت عبر الزمان والمكان، هنالك ضرورة لتفعيل الاجتهاد في الفكر الإسلامي كون الإسلام يمثل حالة الدولة والدين ومنهج حياة وحكم لكن.. بأي فهم؟ كذلك الشيوعية التي لم تتجاوز مرحلة الاشتراكية، والحداثة والرأسمالية التي طورت آلياتها وهي تتعرض لامتحان اليوم كما تتعرض أي منظومة لامتحان الاستمرار والوجود.. ويأتيك أي من حَمَلة هذه الأفكار بشكل انطباعي أو تقليدي ليأخذ النظام كقالب ويريد أن يحشر المجتمع فيه، ويُجهّلك الجاهل ويُكفّرك من قفل تفكيره وهو مكلف أن يبقيه مفتوحا.

ألم ترَ ما يحدث لكتلة جامدة عند حشرها في قالب ضيق أو فضفاض، فما بالك بكتلة متحركة! لا يُنظر إلى أن النظام استقر فكريا عند مرحلة ما، ولكن هذه تحتاج مراجعة لتكون مدبرة لعصرنا، ولا يُنظر إلى الزمن والإسقاطات التاريخية التي ولدت العلمانية، ولا الإرهاصات والمشاكل التي قادت النظام الحداثي لنراه اليوم وهو يؤسس لقوانين غريبة عجيبة لكنها وفق منهج لم يراجَع منذ مدة أيضا، لغلبة السطحية وإبعاد النظرة الفلسفية عن التقويم.

فالرأسمالية التاريخية الغربية فرضها الاقتصاد، لكن الحداثة والدولة في الولايات المتحدة تقدمت فلسفيا لغاية منتصف القرن الماضي وتجمّدت لتمتد المعالجات وفق مفاهيم تحتاج لمصطلحات تحتاج تطويرا ولم تُطوَّر، فكانت التشوهات نتيجة جمود تعريف كاللذة والرفاهية لنصل إلى الشذوذ القانوني، وهو ما تبنته حتى الحداثة في أوربا وما يعرف عند الجميع بالليبرالية الجديدة التي تحتاج أن تُهذَّب لكن مع ضياع المسلمين ستبقى مسببة لشقاء الآدمية.

واقعنا كأمة في مفرق طرق، فلا الدولة التاريخية تنفع ولا الحديثة تنفع ولا سلطات التغلب والأفق الأحادي الضيق سواء من منظور ديني أو قومي أو توجه منقوص كما يرى البعض من العلمانية والليبرالية، وهما آليتان وليستا أيديولوجيا، ولا الرأسمالية التي نشأت الدولة الحديثة لحمايتها

الدولــة:

الدولة مرت في التاريخ بحالة من التطور، من منظومة العشيرة إلى المدن والمناطق، وتعددت أنواع الإدارات، ولم تك الدولة تدخل كل تفاصيل حياة المواطن حتى أتت الدولة الحديثة ليكون المواطن صناعة الدولة والمتحرر بالعبودية لها.

واقعنا كأمة في مفرق طرق، فلا الدولة التاريخية تنفع ولا الحديثة تنفع ولا سلطات التغلب والأفق الأحادي الضيق سواء من منظور ديني أو قومي أو توجه منقوص كما يرى البعض من العلمانية والليبرالية، وهما آليتان وليستا أيديولوجيا، ولا الرأسمالية التي نشأت الدولة الحديثة لحمايتها.

خلاصة: لإقامة دولة ونموذج إداري وفكري لا بد من إعادة النظر في استقراء واقعنا، واستنباط فكر يفهم الغاية من الخلق وليس فكرا متمحور حول السلطة فحسب، ولا على الإخضاع الأسبرطي والإجبار الكهنوتي أو إجبار الناس أن يكونوا على رأي واحد، بينما رب العباد يقول في القرآن إن المؤمنين أقلية (الرعد)، وإنما هذا التنوع ليس يديره بعدل مثل الفهم الصائب للإسلام عندما لا يتقيد بمعنى الدولة الحداثية؛ وإنما الدولة الراعية لمصالح الأمة والشعب في الداخل والخارج، وإن كانت الأفكار المشوهة والسلبية والتي رُسخت في عقل الخاصة قبل العامة صعب تغييرها، وتحول الخاصة إلى الفهم الصواب ، فبلا تغيير كهذا يصبح التمني سيد الموقف وحديث مجالس وخطب لا واقعا له أو آلية تمكين؛ وتبقى العدالة والآدمية محض تجارة للمصالح وسوق أوهام للمارد الطاغية داخلنا.

السبت، 6 مايو 2023

60 - معوقات اليقظة

 


الجهاز المعرفي:

الجهاز المعرفي يمثل مجموعة الأفكار وطريق التفكير ومنهج التفكير والفهم، كما أنه يرتب الأولويات ويقدم ويؤخر في المواضيع، من أجل هذا، فإن ما يصيب أي أمة من تخلف هو بسبب فشل جهازها المعرفي، كذلك النجاح والصعود بسمو الجهاز المعرفي، فإن جمد ولم يواكب الزمن، عاد الجهاز ذاته ليكون سببا في التخلف، فالحياة تتوسع في متطلبات الفكر وتتطور بمتطلبات المدنية.

كيف يفسر الجهاز المعرفي بعض المفاهيم والمصطلحات:

التمكين، غالبا ما يفهم بأنه القدرة على البقاء والتأثير وكسر شوكة الأعداء أو المخالفين مع مرور الزمن، وأن بقاء الحاكم دليل نجاحه، وهذا ليس صحيحا، فتناغم الحاكم والمحكوم وارتباطهما بعقد قبول بعضهما لبعض، هو التمكين وهو النجاح، أي إن الحياة في المجتمع وتجانسها بما يمثل كلا من الحاكم والمحكوم هو النجاح، وإن لم يستمر الحاكم بحكم الظرف أو لأي سبب.

كذلك فإن مصفوفة الفكر عادة تكون تعاملات تشبه الرياضيات، لتنتج أمرا منطقيا من تشخيص وتحديد اللوازم والتخطيط لحل أي من الأسئلة، كذلك هي قادرة على معالجة التحديات كفاعلية ضمن التخطيط والتحصين. أما الظن بأن التخطيط من الآخر قدر مقدور، وتعيين جملة من المسلّمات التي تدعم بمقولات دينية لا تدري مصدرها في حقيقة الأمر، فيخلق حالة من الاستسلام الإرادي والقبول بالإخفاق ووقف التخطيط.

وهذا الخلل أيضا من الجهاز المعرفي الذي نقل بفهم خطأ للقضاء والقدر وعلم الله، وهنا تظهر حالتان، فإما الاستهانة بالمخاطر والتحديات دون دراسة أو معطيات، بل لا أحد يفكر بها وهو يهذي بكلمات وهتافات عاطفية دون فعل، أو الاستسلام الذي ذكرناه. فلا بد إذن من دراسة واعية ومراكز دراسات ترتقي بالناس وتوجه في ذات الوقت، تضع الخطط وتثقف وتدرب.

فاعلية السلوك:

فاعلية السلوك تظهر في المجتمع وتمثل ثقافته، كذلك في الحاكم وخطواته. ادعاء الحسن من الفعل والنتيجة هو كذب على الذات، يقفل طريق اليقظة والإصلاح ليستمر السبات، وهذا بالتأكيد يعني وجوب البحث عن الحقيقة المتجددة التي لا تملك، وإنما يكون الوصول إليها هدفا وليس الغاية للفعل؛ لأن مجرد الوصول إليها تكون الأمور قد توسعت وامتدت وأضحى المطلوب أكثر حداثة، فلا امتلاك للحقيقة، ولا يوجد نهاية للعالم ما دام الإنسان يعيش عليها والقيامة لم تقم.

الفهم:

إن فهمك لما تعتقد، هو ما ينبغي أن يجسد السلوك والأهداف ثم الغايات، ففهم المتدين للدين يمثل ما فهم وليس الدين، كذلك فهم المنقول من قيم إيمانية أو إلحادية أو أي ما يمكن أن يكون معتقدا للآدمي ومخرجات تفاعل فكره، فنحن نحتاج إلى الاستنارة بالحقيقة، وليس امتلاكها والجمود عند الظن بامتلاكها؛ لأن من يظن أنه امتلك الحقيقة، فهو لن ينظر لجديد ما لم يكن منفتح الذهن، فهو يستنير بها وتنعكس على أحاسيسه وخلجات نفسه، بل عموم سلوكه وإبداعه.

منهج الراشدين وليس ما اجتهد الراشدون:

النجاح الذي حققه الراشدون؛ لأنهم كانوا يفهمون المنهج القرآني؛ فعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ الذي تفتخر الأمة بعدله ولا يختلف على هذا اثنان، اجتهد اجتهادات لو فعلها أو استحدثها في عصرنا أي متصدر في الحراك الإسلامي، لخرجت أصوات تسفهه وتكفره، بل لشنّعت عليه أنه عطل الحدود وغيّر توزيع الغنائم، وكثير من الأمور التي احتاجتها الدولة والحكم.

تلك هي الطريق الصائبة وذاك هو منهج عمر اجتهد لعصره، بينما منهج يتبع اليوم لا يسمح بالتجديد وإدارة الدولة نحو المستقبل، بل الكل كسر رقبة الأمة بالالتفات إلى الخلف، ولا يريد أن يوقف الزمن فحسب، بل أن يعيد الماضي بأحداث التاريخ ومشاكله واجتهادات رائعة في عصرها لكن لا تصلح لعصرنا، ناسين أن الله جل وعلا ذم التقليد والاتباع الأعمى، ودعا إلى إعمال المنظومة العقلية والتجديد مع الزمان والمكان وتغيراته، وقال؛ إن القرآن مثاني (طيات) افتحوها وعيشوا زمانكم، خلاصة القول: ما لم نتوقف عن هذا، فهذه الأمة لن تنهض بل ستبقى في تخلف، محتقَرة مهانة عالة على الوجود؛ لا فاعلية لها بما يجري حول العالم من تدهور للقيمة الآدمية، فمن لا ينهض بالآدمية في نفسه لا يستطيع أن يرتقي بها لغيره.

التطور المدني:

اليوم أبسط الناس ممن يستخدم التقنيات الحديثة والابتكارات والصناعات، يعيش عيشة الملوك في الماضي. علماء عصرنا ومفكروه والباحث أمام حاسوبه، يستحضر علوم الأولين والحاضرين بكبسة زر. إننا إذن أولى بالاجتهاد من التقليد أو التصديق والتسليم الأعمى بما أنتجه فقهاء وعلماء لعصرهم وفق ما حصلوا عليه، لسنا مجبرين أن نقدس رأيا لأناس حديثي الإسلام في عصر لم يكن فيه إلا أربع نسخ من القرآن معتمدة ثم تزايدت، لكن لم تصل دفعة واحدة من دفعات المطابع في عصرنا والمتاح على شبكات التواصل وبلغات متعددة.

ليس هذا يعني أن نلغي ونحدّث، بل توسيع لحاء الشجرة الطيبة من أصلها الثابت لتنتج ثمارا ولا تقف متيبسة عقيما. إن واجبنا ليس تمجيد الماضي ونصرة المظلوم في التاريخ، ونحن لا ننصر الحق في الحاضر ونظلم الناس فنظلم بظلم أبرياء بل باختراع الحدث كما نهوى، ونوسع بيئة الجهل بدل أن نقاومه وندعو للعصبيات. وقد تبرأ الرسول من جنس العصبية حتى لو كانت لحب الدين من منطلق غرائزي وانفعالي ومهين لأعظم ميزة للآدمي، هي منظومته العقلية.

إن الحياة إلى نهاية كما بدأت، والكل عائد إلى الله بلا مال ولا جاه ولا منصب ولا نصرة لذاته أو خسارة أكثر من عمله وسلامة ما توصلت إليه منظومته العقلية، ولا يحمل وزرك أحب الناس عندك وأحبهم أنت لفؤاده.


https://arabi21.com/story/1510719/%D9%85%D8%B9%D9%88%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%82%D8%B8%D8%A9


الأحد، 30 أبريل 2023

59 - شــــــــــروط النهضـــــــــــــــــة

 



معوقات النهضـة:

تكلمنا عن التخلف وأسبابه في مقالات سابقة، لكن التخلف له علاج كما حاولت أوروبا ونجحت عبر عصور أن تحقق التنمية والتطور بغض النظر عن التفاصيل والمآل الحالي، بيد أننا وعند النظر إلى مجتمعنا نجد انطباعات متأثرة بالغرب زُرعت لكن نحن من نسقيها وننميها لتكون أدغالا تسد طريق التنمية والنهضة؛ لأننا لم نصمم كشركاء وإنما مستهلكين سنجد نمو القشور وغياب الفاعلية الإيجابية.

أوتاد خيمة التخلف:

تغييرات أثرت في مسارات الاجتهاد والتجديد في منطقتنا، كما ظهر جوهر هذه التغيرات في أوروبا، فعلى سبيل المثال كان الوقف يمثل تكاملا والمجتمع عندما يقر علماء الدين بقبول الاجتهاد المشجع لتنمية الأوقاف من حيث الإدارة ومن يدير وكيفية استثماره، بينما يجمد عندما لا يباح استثمار وتنمية أوقاف المسلمين. وكان يدخل في تفاصيل حياة الناس مثلا استخدام ذهب الأوقاف للعرائس أثناء الزفاف ومراسم الزواج، هذا نموذج من تكافل المؤسسات وكذلك الزكاة والصدقات التي تترك أثرا نفسيا إيجابيا عند المحسِن والمحسَن إليه. الدولة تقوم بهذا الأمر في الحداثة فهي تجمع الضرائب وغيرها وتدير عملية رعاية اجتماعية في احتياجات الناس من البقاء، ونجد نظام التأمين والضمان الصحي وغيرها مما لا يوجد عندنا بشكل عملي ونافع ليؤدي الغرض في احترام كرامة الإنسان؛ لأنه كغيره من النظم الرأسمالية الليبرالية منقول بلا حيثياته ولا غضاضة في الآلية ما لم يطَلها فساد.

إبان زمن النهضة الأوروبية تحرك رأس المال ليغزو بلاد المواد الأولية ومنها منطقتنا، وعند هذه النقطة نشأت الحداثة. لم يك الاحتلال الذي سلك أسلوبَ استعمار المناطق والناس وتطبيق الوصاية عليهم وإذلالهم لدرجة إقناعهم بهذه المهانة والتفوق حتى نجد اليوم تقديسا صامتا، لكنه يظهر في سلوك الناس تجاه القوى المجددة وتحييدها أو إحباطها. فالاستعمار بنى فكرا كما يريد وثقافة كما يريد، وباختصار نفسية وعقلية عبيد عند مجموعة من النخبة، ومن تركهم بعده يحكمون المنطقة كانوا نوعا من القادة لا تذكرهم الكتب الحديثة بلا رؤية، مقفلين يمثلون حالة من الهلامية والضيق في الأفق وحجاب أمام النهضة الحقيقية. فهم ليسوا مديرين لمنظومة الحكم ولا قادة رجال دولة يفكرون في رقي بلدانهم، ولا أصحاب مشاريع حقيقية، بل يستدعون الصراعات الوهمية من أجل استغلالها في قمع المخالف وإذلاله.

الحركات المعارضة:

عندما قامت الحركات المعارضة للنظم لم تك تحمل رؤية، فهي من ذات المدرسة التي تطمح إلى السلطة، وعندما تصل للسلطة تتحول إلى القمع والتنكيل بمن سيظهر كمعارض. وأخذت أشكالا قيمية من القيم الرفيعة للأمة، لكنها شوهت هذه القيم فأضرت بالأمة حين تلبست بقيمها.

الإسلاميون ظهرت أفكارهم عند تداعي الدولة العثمانية، فكانت أفكارا برد الفعل وليس الفعل الحقيقي المدروس وله منهج يقابل التحديات والتشوهات الفكرية والاجتماعية وإدارة عملية الإصلاح بلا مشاكل، فنجد أن هنالك من وضع الجهاد في غير موضعه، وهنالك من وضع فكرة السلم في غير موضعها، فكانت الحالتان مهلهلة مليئة بالفتحات كالغربال.

هنالك من فكر باستئناف الحياة الإسلامية وكأنها توقفت قبل ساعة، وهنالك من اعتبر النموذج هو نموذج الراشدين أو العباسيين أو الأمويين أو غيرهم، وسادت فكرة التغلب مع العجز فأضحى الحكام الانقلابيون شرعيين، وأتى من لا يفهم في إدارة شؤون الناس لكن يجيد قمعهم وجلدهم وتضييع النخب؛ بل تشويه مخرجات النخب الفكرية من شدة ألم التعذيب والسجون.

الحركات بمجملها كلما تقدم الزمن تخلفت عمليا ومارست القمع ضد أي تجديد من داخلها، فنتج عن ذلك ما نراه اليوم من انحرافات في الحكم وفساد لدى العلمانيين والإسلاميين، والنتيجة دمار عملي عندما تتوسع الشقة بين منطقتنا والتطور المدني لنصبح مستهلكين مع هذه العقلية العدمية؛ فلا مراكز دراسات ولا رؤية وإنما انجرار نحو هاوية التخلف.

تقليد الحداثة المشوه:

نتيجة التطور المدني في الصناعة والاقتصاد والاختراعات التي تواكب التطور كانت فكرة براءة الاختراع، وهي فكرة فرضها نظام يرتكز على النفعية؛ فله قوانين تكاملية، وقد تأثرت النخب عندنا بطرق متعددة، كإخفاء المعلومة، واستغلال الاختصاص في امتصاص المال دون النظر إلى الفقير، وهذا بغياب يد الدولة، فيقتل الناس بمرض وجوع والحياة عموما بالعَوَز.

الدولة عندنا سلطات ذكرنا ماهيتها، فهي ليست تتعامل مع تحصينات النظام الرأسمالي، والمنبهرون بالرأسمالية يعتبرون تطبيق أي فكرة وكأنها انتصار نتيجة انغلاقهم؛ ولأن رؤيتهم للنظام الرأسمالي انطباعية وليست عن فهم عميق. وهذا الذي لا يختلفون به عن الإسلاميين الذين يعتبرون مثلا منع الخمر بالقوة نصرا وكلاهما لم يعالج الجوهر. التفكير بنظم مقولبة لا يأتي بنظام تنمية، بل بنظام الربح فيه أهم من الإنسان، ودولة لا تبني مثلا نظاما صحيا يجعل المسؤول مطمئنا أن يعالج نفسه به إن مرض.

شروط النهضة:

إن التقدم لا يحصل إلا بفهم سنن الكون الاجتماعية بالذات، والتناغم بين الدولة والشعب، وهذا يصعب في واقعنا وقلما يحصل بعمق اللهم إلا ظاهريا نتيجة الخوف أو النفاق، والخوف لا يبني كما اللص لا يحافظ على المال ولا المنافق يهمه غيره.

تغيير النفوس أولى معالم التغيير: لأنها تضبط قواعد السلوك والإحساس بأن البلد بلدك وكل ما في الشارع هو ملك الأمة التي أنت جزء منها، وهذا يقود إلى ضرورة وجود الحكم الرشيد الذي تثق به الأمة، شخصية الإنسان هي أهم شرط من شروط النهضة وتفكيره انعكاس لإحساسه؛ فإحساسه بالرقي يعني النهضة وإحساسه بالدونية يعني أنه لا يتوقع خيرا من محيطه فلا يهتم بتطويره إلا استيرادا وشكليا، وهو واقعنا اليوم.

الرؤية والقيادة الأخلاقية: وهنا دور مهم للقيادة في وضع الرؤية الواضحة وكيفية إدارتها، وإحباط الزوائد العفنة التي تحطم الإنجاز وتثبيط السلوكيات المنحرفة وتحجيم المعارضة للتغيير؛ سواء الطبيعية أو من يحس بتضرره لتغيير مصالحه وإرساء القيم العليا عمليا ومن خلال القدوة وأن يكون للأمة رسالة تحملها وتدافع عنها وتربط بين أفراد المجتمع لتحقيقها.

المعايير العلمية والدراسات: وهذا يعني التركيز على مسارات النهضة وإنشاء مراكز دراسات واختيار العاملين عن دراسة ودراية، وليس عشوائيا، وإجراء الموازنات والميزانيات المالية والتخطيط والرقابة والمتابعة عند التنفيذ.

علينا أن نعرّف وندرك دقائق ما ندعو إليه، فأكثر زاعمي الليبرالية والعلمانية والناقدين لمجتمعهم لا يعرفون حقيقة ولا تفاصيل ما يزعمونه، وهذا سيجعل القيادة بيد مسوخ قشرية.

 كذلك قدسية الإسلام ببلوغ مقاصده وليس بتقليد الأولين وتقديسهم، فنحن مكلفون كما هم كانوا مكلفين، والإسلام العمود الأساس لنهضة الأمة بما حوت من أديان، فهو ليس دينا رعويا وإنما منهج إدارة حياة كقيم وثقافة ينتمي لها الجميع وملك للجميع، وأن التقدم ليس بمسايرة الغرب والشرق وإنما بالتعاضد للتعاون في صنع الحياة، فإسقاط تاريخي صنع نظما كالرأسمالية مثلا، سيكون مسخا إن لم ينقل بكامله، ونقله بالكامل يحتاج إسقاطا تاريخيا ليس متاحا في مجتمعنا.

من أجل هذا علينا بفهم جديد وقراءة جديدة لمثاني القرآن من أجل حياة تنتجها منظومة عقلية كما أرادها الله؛ لا كما استعمرها التخلف وغرائز البشر.

136- جدلية ازدواج الشخصية في المجتمعات.. استعمار الأفكار (2-2)

 رابط عربي 21 صراع  قيمي الذي في مجتمعنا مهما كان دينه، هو متعرض لإضافة قناعات إلى فِكْرِهِ من مراجع فكرية متعددة غزت المنطقة والآن الكثير م...