من الخطأ التصور أننا نقود الناس باستثارة الغرائز ونفاخر بأن لدينا أتباعا ومؤيدين بالملايين، ذلك أننا لم نقد منظومة الإنسان العقلية، وإنما قدنا نسخة مفرغة من الآدمية عندما جمدنا التفكير أو جعلناه مستعمرا لغريزة ما، ولا يختلف الأمر إن استغلت حاجاته لاستعباد نفسه التي لا يمكن أن توصف بالحياة ما لم تكن حرة.
المفاهيم
الناس خلقت مختلفة كبصمة الأصبع، لكنها تلتقي من أجل الأهداف وتحب التجمع؛ لذا كانت إنسانا، لكن متلازمة الاستبداد التي تنطلق من الأنا، تجعلنا نرى بوضوح أن أكثر حالات قتل الإنسان وقعا، ليست موته نتيجة تمرده، وإنما ذلك الذي يُترك ليعيش فاقدا للأهلية أو معطلة منظومته العقلية؛ إما بخوفها من التفكير أو أن ذلك ناتج عن التفريغ، كاستعمارها بغرائز كالخوف المُرافق لحب البقاء، أو التردي النفسي بغريزة التملك والنوع؛ هذا عندما لا يستطيع القادر على فرض إرادته بتمكنه من إيذاء الآخرين من الضغط على الناس ليكونوا مثله شكلا، لكنهم فارغون مضمونا. ولعلني مثلت هذا سابقا بفاعلية فايروس طروادة على الملفات، عندما يحوّلها كلها إلى شكل واحد لا يفتح وفارغ.
إن أخطر المفاهيم هي المفاهيم المشوهة عن أصل صائب؛ لأنها تفقد القيم الإنسانية والمتانة العقلية، وتبقي وسائل دفاعها التي تتخذ شكلا خاليا من الإنسانية والعقلانية التي يتصف بها الفكر الرصين. الفكر ينبغي أن ينعكس على السلوك، والسلوك الحسن ليس أساسه دوما فكر متماسك، وإنما قد يكون من ضرورات عقد اجتماعي تطلبه أنماط حياة معينة، تتعطل إن لم يك السلوك راقيا وإنسانيا.
المفاهيم والأفكار ليست ملموسة وهي في النظرية جميلة دوما، لكن نزولها إلى الواقع يتطلب فهما وتشبعا بالفكرة ومعايير أداء تحكمها، أي هنالك قانون وتعليم مستمر ينطلق من الواقع وليس من الفكرة المجردة، فالفكرة الأساسية نظريا سليمة، لكن عند تعاملها مع الواقع ستكون أمرا تطبيقيا له قواعد علمية.
لا بد إذن من تحليل الظاهر من استقراء الواقع، وليس استنباطا من تجربة نجحت في زمان آخر أو مكان آخر أو تاريخ آخر وثقافة أخرى، فالفكر يحتاج ثباتا عقديا، لكن المدنية إنسانية وتراكم للجهد البشري يمكن أن يتحرك بلا حدود، تستدعيه الحاجة إليه مع بعض التعديلات، كما ضربنا المثل بالسيارة؛ هي السيارة، لكن في المناطق الباردة تحتاج نظام تبريد مختلف، فالمسألة ليست بتعدد النظريات، وإنما بفهم الحراك التاريخي والتطور المدني للواقع.
النموذج
أود التركيز على الإخفاق التصوري؛ فتصور أن النموذج الناجح قبل ألف عام أو يزيد هو النموذج المطلوب تطبيقه حرفيا، هذا خطأ قاتل، التصور أن المجتمع جاهز لاستئناف تلك الحياة نوع من الهذيان، التصور أن الحاكم يبقى مدى الحياة وطاعته من طاعة الله. هذا تخلف وحجر على الأهلية والعقلية السليمة.. إذن لا بد من صنع نموذج "غير مقدس" في الواقع اليوم، وهذا النموذج قابل للتعديل والمراجعة والتراجع والتقدم، ولا يهتم أو يعتبر المنقول من الأفهام التي فرضتها تشوهات التاريخ أو اجتهادات الأولين، حتى لو كانوا من القريبين المقربين لعصر الرسالة.
فنحن بالتأكيد نريد منهجهم لأنهم فاهمون ومجتهدون لما يناسب عصرهم، ولكننا لا نريد اجتهادهم هذا وكأنه مقدس كالقرآن، فلا بد والحالة هذه وضع ما نراه يناسب الواقع، وفق خطوات منطقية إصلاحية وتعديلات على النموذج، وما تثريه التجربة إلى أن نصل إلى النموذج الذي نعرضه على العالم للعدل والبناء وخلافة الإنسان للأرض، بآليات قابلة لتطوير النموذج وتحويره بما بتعامل مع الزمكان؛ أي يمكن أن يطبق في منطقتنا مثلا، وذات النموذج يحور بآلياته المكتشفة ليستفيد منه أناس في أوروبا أو اليابان، كنظام مدني يتعامل مع الإنسان كأساس وجودي وليس كماكينة أو روبوت إنتاج يركض ولا يستطيع التوقف، ويمشي وفق قوانين صارمة لكي يبقى نمط الحياة سليما.
فكون الفكرة هي الحل، يعني أنها يمكن أن تنتج آليات متعددة لأزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة؛ أي تتحرك هي باتجاه الزمن ولا نعيد الزمن ليناسب الفكرة، فالزمن مخلوق لا يعود والإنسان يمتحن بمنظومته العقلية التي إن جمدت فشلت.
إن النماذج الناجحة تختلف عن التجارب، فالنماذج هي تجارب ناجحة عدلت آلياتها وحوت آليات تطويرها ضمن منهجها. والإصلاح عملية منهجية مستمرة، فهي ليست للنقل كما هي، وإنما كمنهج فقط. نحتاج منظومات عقلية بها مرونة وليس لِينا ولا صلادة، ونحن كأمة انتقدت قيمها والتقليد الأعمى للماضي أو العيش فيه ذهنيا، وإنما أمرنا أن نعمر الأرض وننمي السلالة، لكننا نلاحظ أن الفهم للإسلام وكأنه أتى للماضي ومنه وليس أنه صالح لكل زمان ومكان، فيريدون نقل الواقع إلى الماضي ويستحضرونه بسلبياته، ناسين الفاعلية العقلية.